سعد هادي
يعيش جبر علوان في إيطاليا منذ دهر، باحثاً عن وطنه المفقود... وقد حمل إلى عمان أخيراً، لوحاته المسكونة بهاجس العراق. على هامش المعرض الأردني، كان هذا الحوار مع واحد من أبرز الفنانين العراقيين خلال العقود الأخيرة

يعيش الرسام العراقي جبر علوان (1948) في روما منذ 33 عاماً. مع ذلك، لا يرى نفسه فناناً مغترباً. لقد ذهب على حد تعبيره الى أوروبا تدفعه رغبة جامحة في تطوير بحثه الفني. “هناك تكوّنت، ووجدت ملامح شخصيتي وعرفت ما هو الرسم، روما منحتني الكثير، فتحت لي أبواب متاحفها وغاليرياتها. جعلتني فناناً معاصراً”. هذا الرسام الذي تخرج من معهد الفنون الجميلة في بغداد، وجد المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس “قرابة حميمة بين أعماله وأفلام فدريكو فيللني التي تحتشد فيها اللوحات المشهدية المثقلة بالألوان والخيال والغرابة، وبين الفضاءات المسرحية”.
شدّ علوان رحاله الى روما في عام 1972 ليواصل دراسته الأكاديمية هناك. وأقام العديد من المعارض الفردية، كما شارك في معارض جماعية في اوروبا، وصدر كتاب عن أعماله في ايطاليا باللغتين الايطالية والانكليزية.
فتحت له روما أبوابها، وأوروبا لا تمنح تلك الفرصة لكثير من الفنانين العرب... “انها تفتح ذراعيها لمن يبحث جدياً ولديه اضافات جديدة، لمن يعرف ما هي الحدود ونقاط الالتقاء بين اصوله وثقافة المجتمع الذي اختار العيش فيه. على رغم ذلك، لا اعتبر نفسي ايطالياً، ليس ضرورياً ان تكون للفنان هوية واضحة، هو متحول كلوحته ومهاجر كالغجر، يستقر حيث يجد مصادر لفنه”.
لكن ماذا كان سيحدث لو ان جبر لم يغادر العراق؟ يرد قائلاً: “بالتأكيد، لن اكون على ما أنا عليه الآن. بغداد ليست روما، وهذا ليس انتقاصاً منها ومن جمالها وحضارتها. لكنها لا تحوي المتاحف التي تحتضنها روما، ولا الإرث الكبير من تاريخ الفن، ولا التقاليد العريقة والاختبارات الحيّة كل يوم في كل شارع ومحترف. وعلى رغم عمرها الذي يزيد على 2000 سنة، ما زالت روما تتطور وتتجدد وتحافظ على ماضيها. وينعكس تجددها اليومي في كل الاتجاهات، في المسرح والتشكيل والسينما والازياء، إضافة الى الاستقرار السياسي والاقتصادي والحرية التي يمتلكها الفنان في عمله”. إنّه في النعيم إذاً. النعيم الذي يبحث عنه كلّ فنّان. فماذا بقي من بغداد في ذاكرته؟ يقول والحزن يرتسم على ملامحه: “بغداد اصبحت بعيدة، ولم يبق منها سوى الذكريات المؤرقة ومشاهد يومية دامية في التلفزيون، يحار المرء كيف يتصرّف إزاءها. انني أستحضر الماضي دائماً، وأقول لنفسي: هل هذا ما كان العراق ينتظره بعد عقود طويلة من الديكتاتورية؟”.
ويستدرك علوان: بحكم غيابي الطويل، لم أعد أعرف كيف يفكر زملائي وأصدقائي هناك. لم اعد استطيع الحوار معهم او التعرف الى ما يفعلون. لقد مروا بظروف قاسية اخذت منهم الكثير، عزلة وحصار وشروط عيش قاسية وملاحقة مستمرة من قوى الظلام... كل ذلك قد يؤدي الى فن عظيم يحتجّ على ما يحدث، او الى انهيار تدريجي يرافق الانهيار في القيم والبنية الاجتماعية”. على رغم ذلك يعترف الفنان بأن الوقت لم يمحُ الصور والأحاسيس والذكريات المعرّشة في أعماقه. كل ما يحمله، شأن كثير من المبدعين المقتلعين من جذورهم، ينعكس في لوحته، بدءاً من الألوان التي تستعير من الصيف العراقي، ومن بابل التي قضى فيها طفولته سارحاً بين التماثيل والمنحوتات القديمة... وصولاً الى المرأة الحزينة والمنكسرة التي تستوطن لوحته، وهي رجع بعيد لكل أولئك النسوة اللواتي خيّمن على طفولته ومراهقته الأولى، في عالم من الظلم والقسوة يحكمه الرجال.
في معرضه الأخير في عمّان، قدّم جبر علوان 18 عملاً جديداً بأحجام كبيرة نسبياً، ساعياً إلى استعادة علاقة تفاعل وحوار مع المتلقي العربي. أراد أن ينقل تجربته إلى أقرب نقطة ممكنة من بغداد... وشهدت محاولاته الجديدة التي تعدّ استمراراً للتجربة نفسها، إقبالاً من الجمهور العراقي في الأردن. علماً بأن لوحته بعيدة عن النقل التسجيلي للمعاناة العراقية. نحن هنا في مسرحه الخاص، نتلصص على مشاهد سرية وقصص حميمة، وانطلاقاً منها نبحث عن هواجسنا وجراحنا. “لا أستطيع العودة الى العراق في ظل الظروف الراهنة”، يقول علوان، لافتاً إلى أن معظم فناني العراق ومثقفيه ومن بينهم اساتذة له، هاجروا الى الاردن هرباً من الجحيم الطائفي، “وتفاعل هؤلاء مع لوحتي، مسألة تهمّني كثيراً”.
وعن تجربته الراهنة يوضح: “أعمالي الحالية امتداد ظاهري لأعمالي السابقة، حيث يتركز البحث على اللون. لكنني الآن تحولت من خلال اللون الى قراءة سيكولوجية للكائن الذي أرسمه، متمعّناً في التجليات التعبيرية لحالته الداخلية. أستمد مادة وحيي، والمؤثرات الفنية من مشاهداتي للآخر، للعالم الخارجي، إضافة الى مؤثرات أخرى منها: السينما والمسرح واتجاهات تشكيلية. عموماً كان الانسان دائماً محور أعمالي”.
ويرى علوان أنّه، تشكيلياً، بعيد كل البعد عن التجريد الذي خاض فيه في بداياته. التجارب الأولى جعلته يشعر بأنه لن يستطيع التعبير كما يريد. اكتشف أنّه رسام تشخيصي: “التشخيص فن متجدد كالموسيقى الكلاسيكية. لا يمكن أن يشيخ. في سبعينيات القرن الماضي، راهنتُ مع رسامين ايطاليين على ان التشخيص لن ينتهي مع دخول التكنولوجيا الحديثة الى اللوحة. أنا شخصياً أشعر بأنني لم أتكيف حتى الآن مع ما انتجته التكنولوجيا. فكيف لي ان ابدع من خلالها؟ بالطبع، ساعدتني اقامتي في روما على التعايش مع التكنولوجيا الحديثة، لكني واصلت انتاج لوحتي بالوسائل التقليدية. أرسم حين أشعر بحاجتي الى الرسم. في الماضي كنت أرسم ليلاً. أما الآن، وقد اقتربت من الستين، فأنا ارسم خلال النهار. لا ارسم الا وانا مرتاح جسدياً. حتى إنني قبل ان اتوجه الى اللوحة، أستحمّ وأحلق ذقني وأدخن سيجارة، كأني متوجه للقاء حبيبة... لذا يرافقني القلق”.
ونسأله: هل ترسم أحلاماً؟ يجيب بسرعة: “انا ارسم حالات. خلال الرسم، أتحرّر من ارادتي، وأروح ألعب مثل طفل. وأحياناً أستحضر شخصاً ما لأتحدث معه بصوت عال... كأني اشرح له ماذا افعل. وأصغي أيضاً الى ما يقوله. وسرعان ما يرحل هذا الشخص، ليحل مكانه آخر. أمارس حريتي كاملة اثناء الرسم. ينبغي للفنان ان يكون حراً في الداخل والخارج على السواء، وهذا ما حاولتُ أن أفعله طوال حياتي”.