القدس المحتلة ــ نجوان درويش
كلا، لم تكن تظاهرةً تلك التي اكتظ بها الشارع المؤدي إلى “مسرح القصبة” في وسط رام الله. كان عرضاً لـ“دام” أول فرقة راب فلسطينية، بالاشتراك مع فرقة أخرى هي “جي تاون” من القدس. لم يتسع المكان لجمهور متحمّس قلما نقع على مثله في فعاليات ثقافية وفنيّة أخرى. أعمار أكثر الحاضرين لا تزيد على العشرين. “في أوروبا، يأتي جمهور من مختلف الأعمار الى حفلاتنا”، يعلّق تامر نفار أحد مؤسسي “دام” التي نجحت في استقطاب جمهور RAP لا يتخلّف عن أي من مواعيدها.
الجيل الذي ولد مع الانتفاضة الأولى تجمعه ثقافة الراب. الاحتجاج والمقاومة والتحدي هي الثيمات الرئيسة لموسيقى الراب الفلسطينية. وتذكّر هذه الظاهرة الثقافية الآخذة في التجذر، بالحضور الذي حققه “شعر المقاومة” في الوجدان الجماعي لجيل سابق، خلال سبعينيات القرن الماضي، على رغم اختلاف الأدوات والزمن. وليس من قبيل المصادفة أن تقدم “دام” إحدى أغنياتها على خلفية صوت خفيض لأحد “رموز شعر المقاومة”، الراحل توفيق زياد، وهو يقرأ قصيدته الشهيرة “أناديكم”.
فرقة “جي تاون” بدأت الحفلة. محمد المغربي وعلاء برهمية ونسرين متولي وفادي أبو عموس ومحمد أبو عون استولوا على الخشبة التي غرقت في صخب الراب، ينجح المستمع غير “المتخصص” في التقاط كلمات مثل “العصابات الصهيونية” و“الأندلس” و“فلسطين” التي تتردد أكثر من عشرين مرة في نهاية إحدى الأغنيات.
ملابس أعضاء “جي تاون” إعلان كامل عن الهوية: “تي. شيرت” سوداء عليها رسم حنظلة (شخصية ناجي العلي الشهيرة)، لفحة بألوان الكوفية الفلسطينية والعلم الفلسطيني. أما كلمات أغنياتهم التي تستمدّ زخمها من هموم الشارع، فتنفذ مباشرة إلى اللحظة السياسية. أغنية “شرق أوسط جديد” تختصر الوعي بماهية الصراع السياسي المفروض على المنطقة. يلاحظ المراقب التواصل وقد اقترب من ذروته بين الفنانين والجمهور. لم يعد ممكناً إغفال التأثير الذي بدأ يمارسه هذا الشكل الموسيقي الشبابي على الأجيال الجديدة... ولا أهمية “الرسالة” التي يمررها، في وقت نسجّل تراجع تأثير بقية الفنون في العالم العربي. كأن الراب يسعى ليكون صوت الشارع العربي الذي أخذ يتكلم من جديد.
أما عرض فرقة “دام” فترافق مع وجود شاشة فيديو في الخلفية، راحت تبث مشاهد من الغضب الفلسطيني كشوارع فرسانها فتية يواجهون الاحتلال. صوت جمال عبد الناصر في خلفية أغنية للفرقة، يختلط مع صيحات الجمهور. تعلو حدّة الحماسة لدى الجيل الذي ولد بعد سنوات من رحيل عبد الناصر، ولم يعرف “زعيم الأمة العربية” إلا من خلال صور قديمة بالأبيض والأسود.
الأخوان تامر وسهيل نفار ومحمود جريري يشكلون ثلاثي “دام” الذي يبدو “محترفاً” في السيطرة على عناصر الفرجة. تعليقات ساخرة تقود “طقساً” مجنوناً يتبادله أعضاء الفرقة مع جمهورهم، فيما تحضر الروحية الأفرو ــ لاتينية بقوّة في أدائهم، وخصوصاً في الرقص. في تقديمه إحدى الأغنيات، قال تامر نفار إنهم يهدونها إلى أطفال الانتفاضة... هؤلاء الأطفال الذين يتسابق الجميع إلى تخفيف معاناتهم، “وخصوصاً هيفاء وهبي اللي بتبوس الواوا”. هذا المزج العبثي لا يبدو فجاً على لسان تامر، على رغم أنه يسير في “فرجته” هذه على حافة “الكيتش”... ويكاد يقع فيه!
وعلى رغم نزوع “دام” الى “تعريب” الـRAP، لا تخفى تأثيرات آباء الراب السود الأميركيين كـ“50 سنت” و“2 باك”. وإن كانت فرقة “دام” تعمد إلى “تأليف” موسيقى راب شرقية، فإن “جي. تاون” تستعمل ألحاناً من فناني راب أميركيين، يصار إلى تطعيمها بعناصر شرقية... كإدخال العود على العرض مثلاً.
لم يفت أعضاء “دام” أن يختموا بأغنيتهم “مين الإرهابي؟”. هذه الأغنية التي لا نكاد نعثر في النتاج الفنّي الفلسطيني اليوم، على عمل بقوتها قادر على ضرب منطق الاحتلال. كأن هؤلاء الفتية ــ الذين تركوا المدارس ليلتحقوا بالشارع ــ خرجوا من معطف صاحب “الاستشراق” و“الثقافة والإمبريالية”. تُرى كيف كان إدوارد سعيد ليقرأ ظاهرة الراب العربي، الفلسطيني تحديداً؟