strong>خليل صويلح
اثنا عشر عاماً بعد رحيله، ما زال جبرا إبراهيم جبرا حاضراً كأحد رموز المشروع التحديثي العربي. ماجد السامرّائي الذي عرفه عن قرب، يستعيد فصولاً من سيرة أدبية وذاتية لم تكتمل لصاحب “البحث عن وليد مسعود”

أتيح للناقد العراقي ماجد السامرّائي، بين 1972 و1992 محاورة جبرا ابراهيم جبرا الذي انتخب بغداد مقاماً، في قضايا إبداعية ونقدية. هدف السامرّائي الذي كان مقرباً من الأديب والناقد الفلسطيني الكبير (1919 ــ 1994)، كما يبدو من محطات هذا الحوار المديد والمتواصل الذي ينشر اليوم، هو استقصاء العلاقة بين النص وصاحبه ومصادر كتاباته، ودرسها من الداخل، ومعاينة أبعادها الشخصية والعامة..
في كتابه “الاكتشاف والدهشة: حوار في دوافع الإبداع مع جبرا إبراهيم جبرا” الصادر حديثاً عن “دار النمير” (دمشق)، يغوص السامرائي في كواليس الكتابة لدى صاحب “صيادون في شارع ضيق”، محاولاً رسم ما يشبه السيرة الفكرية. اتخذت تلك السيرة دروباً فرضتها ظروف النفي والترحال التي قادت الكاتب الفلسطيني إلى بغداد، حيث حطّ رحاله بعد نكبة فلسطين. هناك، وجد نفسه في مناخ ثقافي آخر، يختلف عما خبره في طفولته ومطلع شبابه في مدينته بيت لحم. لكن جبرا، مترجم شكسبير الى الضاد، ما لبث أن انخرط في هذا الفضاء الجديد بصحبة تجارب تشبهه في الحساسية والتطلعات، من بدر شاكر السياب وجواد سليم وبلند الحيدري إلى شريك تجربته الحميم عبد الرحمن منيف الذي كتب معه رواية مشتركة بعنوان “عالم بلا خرائط”.
تجربة “شعر”
مع صدور مجلة “شعر” عام 1957 في بيروت، دخل جبرا مغامرة الحداثة من أوسع أبوابها، شاعراً وناقداً. هكذا تعرّف إلى يوسف الخال وتوفيق صايغ و“خميس مجلة شعر” الذي التف حوله شعراء مجددون، يحلمون بقصيدة تدير ظهرها للمنجز التقليدي. في هذه الفترة، صدرت مجموعة جبرا الشعرية الأولى “تموز في المدينة” (1959)، أي قبل أكثر من سنة على ديوان السيّاب الشهير “أنشودة المطر”.
يعترف جبرا للسامرائي بأن “كل ما نشر في “شعر”، لم يكن يستحق النشر أصلاً، وكان الكثير منه محاولات مخفقة”. وفي تقويمه لتجارب شعراء مجلة “شعر”، يشير إلى أن شعر شوقي أبي شقرا “كان غريباً وأعرف أصوله... إنها آتية من الشعر الفرنسي السريالي”. وعن تجربة أنسي الحاج، يقول: “أنسي الحاج كان عنده دفق هائل، وما زال في فيض مستمر. لكنه كان يضيع في متاهات لا تمنح القصيدة الجميلة بأبياتها وحدةً معيّنةً. هو متناثر باستمرار، ولو أن تناثره رائع بصوره وألقه”. ويجد جبرا أن أدونيس صاحب موقف عقلاني في شعره، وهو بذلك يتناقض مع موقفه الرؤيوي المعلن. فيما يرى أن نازك الملائكة تخلّت عن التجديد في شعرها بعد ديوانها “شظايا ورماد” ساعيةً إلى تأطير الحداثة في قالب خاص لا يتلاءم مع تجارب الآخرين.
وكما هو معروف، كان جبرا قد أضاء جوانب من حياته المبكرة في سيرته الذاتية “البئر الأولى” (دار “رياض الريّس” ــ 1989). أما حوارات السامرّائي، فتسعى إلى استكمال تلك السيرة عبر “ترميم” مراحلها اللاحقة، خصوصاً في ما يتعلق بعلاقة الراوي بشخصياته، والمسافة الفاصلة بينهما لجهة الوقائع. يذكر جبرا انه كان أقرب إلى شخصية عدنان طالب، منه إلى شخصية جميل فران في رواية “صيادون في شارع ضيق”، على عكس توقعات النقاد تماماً. ويقول: “إن الكثير من أفكاري عبّرت عنها عن طريق عدنان طالب”. أما في “السفينة” التي يراها أفضل ما كتب، فقد كانت شخصية وديع عساف “تحتل ناحية عميقة من نواحي نفسي”.
يؤكد جبرا أن الكتابة بالنسبة إليه، حالة نشوة وألم، وأنه ينبغي للرواية خصوصاً أن تكون عامل اكتشاف نظراً الى اتساع رقعة تجوالها في الأمكنة والشخصيات، ونبش عوالم مجهولة في الأرواح والمصائر. ويوضح أنه يلجأ على الدوام إلى “ضمير المتكلم” في سرد وقائع رواياته. وربما لهذا السبب، كان النقاد يحيلون أفعال بعض الشخصيات إلى صاحب النص، لا إلى الراوي. الأمر الذي يوقع القارئ في التباس، حين يماهي بين ما هو روائي متخيل، وما هو سيرة حياتية.
سيرة للتيه الفلسطيني
في المقابل يشير جبرا إلى أن رواية “السفينة” (1970) كانت سيرةً للتيه الفلسطيني، والإبحار إلى شواطئ مجهولة. مثلما جاءت “البحث عن وليد مسعود” مدوّنة بانورامية لهذا التيه، بين لجج وأفكار وأحلام وهزائم، على مدار نصف قرن... أي على عكس “السفينة” التي تجري أحداثها خلال أسبوع واحد. يقول في توصيف شخصياته الروائية: “يخيّل إلي أن الكاتب اليوم في رصده شخصيات رواياته، إنما يؤكد على خطاياهم أكثر مما يؤكد على فضائلهم”.
ولا ينكر جبرا أهمية تجارب الحياة في تشكيل عالمه الروائي، خصوصاً أنه خبر أماكن وبيئات متعددة. لكنه يؤكد أهمية القراءة في تعميق وعيه المعرفي. ويذكر بحنين كيف اقتنى الكتاب الأول، وهو بعنوان “سير الأبطال”، بعدما وفّر ثلاثة قروش من أجره في دكّان للنجارة، واكتشافه لاحقاً مكتبة صغيرة تعير الكتب لمدة أسبوع مقابل قرش واحد. أتقن جبرا اللغة الإنكليزية في التاسعة عشرة، وتوجه بعد ذاك إلى قراءات أخرى من خلال منشورات “دار بنغوين”، قادته إلى كتابة روايته الأولى “صراخ في ليل طويل” بالإنكليزية، ثم ترجمها فيما بعد إلى العربية. وفي حواراته مع السامرّائي، يعبّر جبرا عن اعتقاده أن الرواية العربية ظلت مغلقة سردياً، ولم تستفد من التقنيات الحديثة في الكتابة، بما فيها روايات نجيب محفوظ. “توقف منذ الستينيات، وأغلب ما كتبه لاحقاً من قصص هي تمارين ينبغي حفظها في الأدراج”. أنجز جبرا في حياته حوالى 45 كتاباً بين شعر ورواية ونقد وترجمة. لكنه يقول “ما زلت أشعر بأن ما حققت ليس إلا جزءاً من الحلم الذي كان يملأ عينيّ أيام الصبا. ولذا تراني كلما انتهيت من كتابةٍ ما، أتطلع لا إلى الوراء بل إلى المنظر الذي يجابهني مرة أخرى”. ويضيف: “هذا القلق المستمر تجاه ما هو آتٍ هو ما حققت من كتابتي”.
ويختتم المحاور فصول كتابه بجولة شخصية في مكتبة جبرا، فيصفها قائلاً “إنها مكتبة ليس لها مكان واحد، بل لقد نشرت ظلالها على البيت بأكمله، وتكاد تجد الكثير منها على طاولة الكتابة. عادات جبرا في القراءة أنه لا يخلد إلى كتاب واحد حتى ينهيه، بل تجده يقرأ، في آن واحد، في أكثر من كتاب”.