فرح داغر
تكتب ياسمين غاتا في “ليل الخطّاطين” الصادرة حديثاً عن “دار النهار” (ترجمة جبور الدويهي) قصة شغف جدتها العثمانية بفن الخطّ العربي، في وقت تخلت عنه تركيا تحت حكم كمال أتاتورك. من خلال موضوع الخطّاطين، تتعقّب الروائيّة الشابة اندثار ذلك المناخ الفني الذي مثّله الخطّ العربي، بعد أن قامت الجمهورية التركية عام 1928، بالاستغناء عن الكتابة العربية، واستبدلت بها صيغة معدّلة عن الأبجدية اللاتينية. وهذا ما أثّر سلباً في الخطاطين الذين اعتبروا أن أتاتورك طرد “الله من البلاد”.
رواية غاتا “تركية كُتبت بالفرنسية” على حد تعبير أحد الشعراء، تتناول موضوعاً مهماً على خلفية الأحداث التي شهدتها تركيا خلال مرحلة انتقالها الى العلمانية. وهذا الموضوع بالذات سبق للروائي التركي أورهان باموق ان عالجه في بعض أعماله.
تتناول ياسمين غاتا سيرتها في هذه الرواية، من خلال صيغة المتكلم... مستعيرة “أنا” جدتها الراحلة. تمزج الكاتبة التاريخ بحالة خيالية، مع إضفاء البعد الرمزي والمجازي والتشخيصي على الأشياء. على سبيل المثال، ليس حبر الخطاط سوى امتداد لدمه... فيما الخط العربي إشارة الى الزمن الرومانسي الذي يتّسم بالقدسية أيضاً. الله لا يهتم “بالأبجدية اللاتينية. نفَسه الكثيف لا ينزلق فوق هذه الحروف المفصلة والقصيرة القامة”. وبالتالي فـ“دم الخطاطين مختلف عن دم سائر البشر”. وأكثر من ذلك، تقول الكاتبة “لا يموت الخطاطون أبداً... يلجأ الله إليهم لإنزال كلمته...”.
وياسمين غاتا هي ابنة الشاعرة والروائية اللبنانية فينوس غاتا الخوري. ولدت في فرنسا عام 1975 ودرست تاريخ الفن الاسلامي. عاشت حياتها في الغرب، من دون إتقان العربية. إلا أنّ جذورها الشرقية ما انفكّت تشدّها الى ذلك العالم الغامض. هكذا، حبكت ياسمين روايتها من خلال كتابتها عن حرفة الخطاطين التي تبدو أقرب الى التصوّف منها الى المهنة. تعيدنا أجواء الرواية إلى أعمال تناولت مهناً اندثرت مثل “الفراشة الزرقاء” التي كتبها ربيع جابر عن صناعة الحرير في جبل لبنان.
كتبت غاتا عن رومانسية زمن الخطاطين كأنها ترثي زوالهم، بل تتحدث عن جدتها وحتّى الحبر بصيغة الأنا: “انطفأتُ في 26 نيسان 1986 عن ثلاث وثمانين سنة. كانت إسطنبول تحتفل بعيد الزنبق في أمير جان. صبيحة اليوم نفسه، أبلغ ابني نديم وفاتي الى الدوائر البلدية في بكلربكي القرية الساحلية المتربعة على الضفة الآسيوية للبوسفور. كان رحيلي بلا مشاكل كما كانت عليه حياتي. لم أخف الموت مرة، فهو لا يقسو إلا على من يخشونه. لا صراخ ولا دموع. جاء موتي لطيفاً لطف القصب عندما تغط أليافه في المحبرة. وجاء أسرع من الحبر يشربه الورق. حرصت على ألا أخلّف ورائي أي فوضى. رتبت حياتي وأدوات الخطاطة التي كنتها”. هكذا، اختفت الى الأبد سلالة الخطاطين الطويلة وأساطيرهم وألقابهم كـ“الفقير” و“الأحدب”. اختفت إلى الأبد و“عفى الزمن على روحانية الخط الجميل”.