القدس المحتلة ــ نجوان درويش
أقام برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (U.N.D.P) للسنة الخامسة المزاد “الخيري” على لوحات الفنانين الفلسطينيين في فندق في القدس، وكشف مجدداً أن هذه المؤسسة الدولية تتعامل مع الفن التشكيلي الفلسطيني والفنانين الفلسطينيين من باب “المساعدة الإنسانية” والشفقة. فالمزاد لا يخرج عن ذهنية الإغاثة، والتعاطي مع القضية الفلسطينية (حتى في جانبها الثقافي) يأخذ شكل تقديم مساعدات لمنكوبين ولاجئين، مساعدات تظهر عطفاً من شمال العالم على “الأقدار” البائسة للـ“محرومين” في جنوبه: “البؤس النازل عليهم من السماء والذي لا يد لأحد فيه”. عريف المزاد ومنظّمه فطّر قلوب الحاضرين أثناء المزايدة على اللوحات (القسم الأكبر منها امتاز بتدني المستوى الفنّيفراح العريف يتحدث عن “حاجة” الفنانين الفلسطينيين لبيع إنتاجاتهم، وبذل جهوداً هائلة في استدرار الشفقة لرفع أثمان اللوحات. وكان يقول “الفنان x اتصل من مكان دراسته في باريس كاشفاً عن حاجته إلى كل قرش، وآخرون يستحقون الدعم لأنهم من غزة، وذاك لكي يكمل دراسته الجامعية وتلك لأنها فتاة والمصور الفوتوغرافي في حاجة إلى شراء كاميرا...!” وما إلى ذلك من تنويعات خطاب الشفقة التي قدمها عريف المزاد المتحمس بلهجة أميركية فصيحة لجمهور معظمه من البعثات الأجنبية والقنصليات والمانحين ونجوم طبقة الـN.G.O. (أي الجمعيات الأهلية وقد بدأت تتيح لجمهور عربي أيضاً ــ خليجي بشكل خاص ــ ممارسة “طقس الشفقة” على الفنانين الفلسطينيين وعلى “القدس الشريف” من خلال “معارض” و“مزادات” في دبي وغيرها). لم يكن مستغرباً في هذا السياق أن يسبق “المزاد” عزف على الربابة قدمه عازف فولكلوري يرتدي “الزي البدوي الأصيل”، لكي “تلبس” الفعالية الروح الاستشراقية المطلوبة. فبدا الأمر وكأنه يحدث في السنوات الأولى من الانتداب البريطاني على فلسطين. وبجرعة أخرى من الخيال، في إمكان المرء أن يرى زوجة المندوب السامي ترفع ذراعها البضة وهي تدفع سعراً مرتفعاً مقابل “لوحة محلية” على رغم علمها أنه لا قيمة فنية لها! القائمون على هذا المزاد ليسوا ذوي اختصاص ولا يهتمون بالفن التشكيلي. ولم يكلفوا أنفسهم عناء تأليف لجنة مختصة تختار اللوحات المشاركة ولم يستعينوا بناقد فنّي يضع مقاييس ومعايير ترفع من شأن المزاد وتضعه في سياق فنّي لائق. سياق يجعل المشترين يتنافسون على أعمال فنيّة وليس على إظهار الشفقة على الفنانين الفلسطينيين الذين لم تتمكن أغلبيتهم من الحضور بسبب قوانين الاحتلال التي تمنع سكان الضفة الغربية وغزة من دخول القدس كان المزاد مساحة لـ“التنكيل الرمزي” بالتجارب الفنية وعرضها كموضوع للشفقة! ولعل قسطاً وافراً من المسؤولية يقع على الفنانين أنفسهم وعلى مؤسساتهم، فالعرب قالت قديماً: “المرء حيث يضع نفسه”. ومن المستغرب أن يقبل الفنانون المشاركة في سياق كهذا.. بل إن البعض لم يحتجوا على أداء منظمي المزاد وأرسلوا ما اعتبروه أسوأ أعمالهم، والأغرب أن بعض لوحات المزاد ذهب ريعها إلى إحدى المؤسسات الفلسطينية التي تسعى ــ كما يقول أصحابها ــ لتأسيس “نواة لمتحف فلسطيني في القدس”، وذلك من دون الاستعانة بفنانين ونقاد.