strong>رلى راشد
كان من المفروض أن يشارك جوناثان ليتل في معرض الكتاب الفرنكوفوني في بيروت. أُلغي المعرض بسبب الظروف، وبقي ليتل. الكاتب الأميركي الحائز جائزة “غونكور” الأدبية الفرنسية هذا الموسم، التقى الجمهور اللبناني، أول من أمس، ضمن برنامج لقاءات مع مجموعة من الكتّاب الفرنسيين الذين قرروا المجيء إلى بيروت، لتقديم أعمالهم، من دون معرض كتاب.
لقاء أدبيّ كما لم نعهد، وجوناثان ليتل كما لم نتوقّع. فالأميركي الذي قرأناه في حوارات رزينة بينها حوار نشرته “لو موند” أخيراً، هو غير ذلك الذي جلس تلك العشيّة في “المركز الثقافي الفرنسي”، الى يسار ناشره ريشار مييه، الجالس بدوره الى يسار عرّاب المشروع، الكاتب اللبناني الفرنكوفوني ألكسندر نجار. في قاعة ضاقت بالحضور، بدا ليتل متعالياً، وهو أول أميركي يفوز بالـ “غونكور” عن رواية “المُتسامحات”، بل كاد يلامس حدود الشوفينيّة. ردّ باقتضاب وتهكّم على أسئلة نجار الذي حاول، عبثاً، انتزاع إجابات تتقاطع مع موضوع اللقاء: “سطوة الرواية على التاريخ”. لكن ليتل راح يطعّم مداخلاته، المقتضبة، بلازمة: “لا أعرف”.
لا يعرف ليتل، أو لا يهمّه أن يتواصل مع الجمهور البيروتي! لم يوضح السبب الذي دفعه الى الكتابة بالفرنسية، ورأى أنّ مناقشة الأدب استناداً الى لغته مشكلة خاطئة، مستشهداً بجملة قالها الكاتب الألباني اسماعيل كاداريه: “قد نكون من الاسكيمو وننجز أدباً جيداً!”.
لم يُخفِ ليتل سأمه من اثارة هذا الموضوع، تماماً كما ريشار مييه، ناشر ليتل لدى “غاليمار”. وعند الحديث عن وسط أدبيّ فرنسي يطبّق فيه النقاد والناشرون أساليب المافيا، أغفل مييه مقالات احتفت برواية ليتل التي تصدّرت لائحة مجلة “لير” لأفضل روايات العام. بل حمل على صحافة ثقافيّة “رديئة” لم تبذل عناء التأمل في هيكلية “المتسامحات”. قال ذلك قبل أن يستشهد بجملة لمالرو “إن باع كتاب ما أكثر من 30 ألف نسخة فهو سوء تفاهم”، ليسندرك بعدها أن رواية ليتل هي الاستثناء الذي يؤكّد القاعدة.
تعثّر الحوار مرة أخرى بين نجار وليتل لدى تناول صورة الجلاّد، ذلك «الثقب الأسود في أدب الضحايا والشهود». وعندما أشار نجّار الى نظريّة حنّة أرندت عن «عاديّة الشرّ» لوصف شخصيّة ماكسيميليان الضابط النازي في رواية «المتسامحات» الذي لا يبدي أي ندم تجاه جرائمه، عاد ليتل الى موقفه السلبي: «لا تعني هذه النظريّة شيئاً، لأن الشرّ ليس عادياً... نحن من نقرّره». بطل “المتسامحات” «جلاّد منضدة الكتابة»، أي انه مخطط لا منفّذ... ولا يتآكله الندم، ولتأكيد صوابية وصفه لم يجد مثلاً أكثر تعبيراً من سجن “أبو غريب”، حيث «جلادون يعذّبون ضحاياهم ثم يلتقطون صورهم...”.
وعن زيارته لبنان، تفادى ليتل الجواب التقليدي: “ماذا أقول بعد ثلاثة أيام فقط على زيارتي؟ للأسف، بصريّاً لبنان رائع، ومشوّه بسبب البناء العشوائي. قد تكون علاقتكم مختلفة مع الأرض. وإذا كان ذلك ملائماً للسكان، فلا بأس. أما على صعيد التوترات الداخلية، فهناك خطر أن تسوء الأمور طائفياً عند أتفه مشكلة، وهذا ليس أسلوباً لبناء بلد”... هذه هي الحكمة التي أتحفنا بها الكاتب الأميركي الذي سينال أخيراً الجنسية الفرنسية، بعدما رُفض طلبه مرّتين في السابق. إنّها إحدى عجائب جائزة “غونكور”!