strong>زياد عبد الواحد
هدأت ضجّة المهرجانات التي اكتظّ بها المشهد السينمائي العربي خلال الشهرين الماضيين، وجاء وقت الجردة. هنا قراءة مقارنة لتجارب من لبنان وتونس ومصر، كلّها تدور في دوّامة العنف، المعلن أو المستتر، في ليل المدينة...

تتيح المهرجانات السينمائية، وآخرها مهرجان «دبي السينمائي الدولي» الذي اختُتمت فعالياته أمس، فرصة «مكثّفة» لتفقّد «حصاد العام» على مستوى الإنتاج السينمائي. ولا يمكن لهذا التكثيف (عرض مهرجان دبي 110 أفلام في أسبوع واحد)، إلا أن يسرّب إلى المشاهد، الكثير من الصور واللغات المشتركة، بين سينمائيين موزّعين على شرق وغرب. إلا أنّ أدواتهم تبدو متقاربة حين يقفون أمام عالم يحتضر، ومدن تضيّق الخناق على أبنائها وتجهض أحلامهم. «عرس الذيب» و«خشخاش» من تونس، «أطلال» و«فلافل» من لبنان، «قصّ ولزّق» و«البنات دول» من مصر، أفلام شاهدناها في دبي، وتدور حول الثيمة نفسها: المدينة التي تخنق أبناءها وتقذفهم الى الهاوية. قصص عن ضياع جيل لا يجد متنفساً لأحلامه، يعاني الظلم، فإما أن يغرق في الانتقام... أو يتآكله الإحباط ويعيش في حالة هروب من الواقع.
يغوص التونسي جيلاني السعدي في ليل المدينة، متعقّباً أربعة شبان تائهين ينتظرون الفريسة على باب المرقص ليرقصوا معها في «عرس الذيب». يغتصب ثلاثة منهم الفتاة (أنيسة داوود) التي تعمل بائعة هوى بإرادتها، ويفشل الرابع في ردعهم. والنتيجة أنه سيكون أول من تطلب الفتاة رأسه في رحلة انتقامها، تدّعي أن ستوفا (محمد غراية) اغتصبها. فيتعرض للضرب المبرّح ويُنقل في عربة نفايات الى المستشفى. ثم يهرب ليقابل بائعة الهوى من جديد، ويأخذها بجولة على دراجته النارية في شوارع المدينة القاسية والكئيبة. في تلك الشوارع، لا مكان للغفران، ورغبة البؤساء في مواجهة الظلم تؤدي إلى ظلم آخرين. الضحية تريد أن تمص دماء المدينة بأسرها. وإذا كان السعدي، صاحب «خرمة» (2003)، صوّر تيه الضحية (بائعة الهوى أو المدينة ذاتها)، ورحلتها الشيطانية في تحصيل «حقها» من «المغتصبين»، فإن اللبناني ميشال كمّون الذي تذكّر مناخاته بشكل مدهش بأجواء فيلم السعدي (ولو أن الثاني أكثر نضجاً على مستوى اللغة الفيلميّة)، ترك الحكم معلقاً في نهاية فيلمه «فلافل». يريد توفيق (إيلي متري) أن ينتقم من الظلم الذي وقع عليه، أثناء احتفاله مع رفاقه في شقة في بيروت، حيث الرقص والحب والجنس. لكن أحد المسلحين المتغطرسين يدّعي أن الشباب «ضربوا» سيارته، وينهال على توفيق ضرباً، بعد أن يهــــــــدّدة بالسلاح. في ليل بيروت القاسي والموحش، يبحث توفيق على دراجته النارية عن طريدته. يشتري سلاحاً. تدخل الضحية في رحلة مطاردة لجلادها. المدينة العاجزة التي تستــــــــكثر على أبنائها البهجة، قد تتواطأ مع الجلاد ضد الضحية. إنها رحلة إلى أعماق المدينة، غوص في لاوعي الجماعة. «فلافل» فيلم عن العـــــــنف الكامن، وعلاقات القوّة التي تشكّل طــــــقساً اجتماعياً وثقافياً، ومشاهد العنف العسكري والخطف في بلد الحروب الأهليّة الدائمة... يحمل توفيق مسدسه، ولا ندري إن كان يطلب رأس ظالمه أو رأس بيروت! المشهد الأخيـــــــر يحبس الانفجار. ينام توفيق الى جانب أخيه الطفل، فيما المسدس ينتظر الى جانبه.
المدينة المتواطئة ضد الفرح والأمل هي ذاتها مدينة اللبناني غسان سلهب. اختار صاحب «أرض مجهولة» هذه المرّة الطرح الميتافيزيقي، للتعبير عن الضياع الفردي والجماعي، وعن استحالة المستقبل، وعن الغرق التدريجي في لجّة ليل بلا قرار... بعد «أشباح بيروت» (١٩٩٨)، يحوم سلهب مجدداً في شوارع بيروت، كما المجرم حول مسرح الجريمة، مطارداً أشباحه الحميمة في متاهات المدينة المستحيلة. “أطلال” مدينة تحتفي بالدم ومصاصيه، والضحية فيه تتماهى مع جلادها، فتمص الدماء مثله.
أما التونسية سلمى بكار، فتذهب ببطلتها الى الجنون. الضحية عاجزة هذه المرة عن الانتقام. المدينة ليست أرصفة وطرقات وليلاً، بل فراش لا يشبع حواس زكية (ربيعة بن عبد الله). نحن في تونس الأربعينيات، حيث البوح ضد الاستعمار جائز، فيما البوح ضد الرجل ممنوع. لكن زوج زكية مُثلي ينام مع خادمه. يحبه ويبكي لرحيله ويلوم أمه التي لم تفهمه أبداً. زكية تذهب الى الخشخاش المخدّر هرباً من واقعها. هذه الزوجة لا تريد أن تفضح زوجها، بل ربما تستّر عنه على رغم الألم الذي يعصرها. تتعاطف الضحية مع جلادها، رغم كل شيء، لأن الجلاد ضحية بدوره. الانسحاب كحلّ لمواجهة القسوة، موضوع اشتغلت عليه المصرية هالة خليل أيضاً في فيلمها «قصّ ولزّق». البطلة حنان ترك (قبل الحجاب) تتحايل على قسوة المدينة. تعرف أنها لن تهزمها، لكنها تريد كسب ما تستطيع من الوقت قبل الهروب. تشتري من ناس المدينة ما يريدون التخلص منه، وتعود فتبيعه الى آخرين. ترضى بفُتات المدينة، ريثما تجمع «النقاط» الكافية التي تخوّلها الهجرة الى نيوزيلندا. هناك حيث مدينة جديدة ووهم آخر. حنان ترك، في هوسها بالهجرة والانسحاب، تستـــــــهلك «خشــــــــــخاشـــــــاً» من نوع آخر.
إنّه الخشخاش الذي قد يحمل في القاهرة اسم «الكولة». الطريقة الوحيدة التي تجعل «البنات دول» قادرات على العيش، وتحمّل قسوة المدينة، وطحنها لأحلامهن. تذهب المصرية تهاني راشد في فيلمها التسجيلي النادر، في وجعه وعمقه وذكائه الى «أطلال» سلهب و«خشخاش» بكار و«ذيب» السعدي و«فلافل» كمّون. يختزل فيلمها وجع كل ضحايا المدن التي تنبذ أبناءها وتقتلهم وترمي بأحلامهم. تذهب إلى الصدمة الكاملة... تبكي تاتا، «رئيسة» الشارع وضحيته في الوقت ذاته، أمام عدسة الكاميرا. يسيح الكحل الرخيص على خدّها. تقول: «تُرى لماذا يولد الأطفال المجهولون؟».