جال فيلم مي المصري الأخير “يوميات بيروت: حقائق وأكاذيب” على تظاهرات سينمائية عدة، كان آخرها “مهرجان دبي السينمائي الدولي” حيث لقي اهتماماً خاصاً. والشريط كان قد اخترق الحصار خلال العدوان الأخير، ليعرض في باريس حيث نال جائزة “معهد العالم العربي الكبرى للفيلم التسجيلي”... كما شارك في مهرجان “ليساس” ومهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية. وها هو يعود مرةً أخرى إلى لبنان، وتحديداً إلى صالة متروبوليس (الحمرا) حيث يبدأ عرضه اليوم ويستمر حتى 21 من الشهر الحالي.“يوميات بيروت...” الذي افتتح الدورة الثامنة من مهرجان “بيروت الدولي للأفلام الوثائقيّة” قبل أسابيع، يتناول مرحلة مفصلية من تاريخ لبنان، ومعها التحولات الاجتماعية والسياسية التي طرأت على المجتمع اللبناني.
ترسم المخرجة الفلسطينية ــ اللبنانية مي المصري صورة عن الشباب اللبناني الباحث عن ذاته من خلال شخصية نادين التي كانت أول من نزل إلى ساحة الشهداء بعد استشهاد رئيس الوزراء رفيق الحريري. تتنقل كاميرا المصري، من خلال نادين، في مخيم الحرية، الذي تحوّل إلى صورة عن الوطن القائم أو ذاك المنشود. في تلك الخيم التي نصبت، راح نموذج وطن يتشكل، قوامه شباب يسعون إلى إلغاء الفساد والطائفية على رغم الاشتباكات التي وقعت بينهم أحياناً.
في تلك الساحة التي غصت بالشبان في شباط (فبراير) 2005، نقلت المصري صورة عن شريحة واسعة من المجتمع اللبناني، جيل ما بعد الحرب الأهلية الباحث عن ذاته وعن هويته وعن قضيته في المجهول. ونكتشف من خلال نادين التي تلعب دور الرابط الأساسي بين شخصيات الفيلم، أن كثيراً من الشباب كانوا يبحثون في تلك الساحة عن الانتماء أيضاً. فيما يكشف الشريط التسجيلي النقاب عن التغيرات الاجتماعية والأسرية التي طالت بنية المجتمع اللبناني اليوم من خلال قصص كثيرة لهؤلاء الشبان مثل استقلالهم عن ذويهم.
لكن الفيلم، أولاً وقبل كل شيء، فيلم عن الاستفاقة من حلم، الاستفاقة على حقيقة فجّة وخيبات عديدة. نكتشف كيف أنّ مطالب هؤلاء الشباب تندثر في مهب الريح. تصادرها القوى السياسية نفسها التي استخدمتهم ورمتهم. هؤلاء الشباب كانوا أول من جاء إلى وسط البلد، إذا بهم «يُطردون» من القصة مع شعور بالمرارة. يكتشفون أن الحقيقة كذبة، وأن ثورة الشباب الحقيقية أُجهِضَت، وأن هناك «17 ألف حقيقة مفقودة» (بعدد المفقودين في لبنان).
موضوع المفقودين الذي سبق أن عالجه الثنائي مي المصري وجان شمعون، يعود ليسكن «يوميات بيروت». لقد جاءت لغة الفيلم ناضجة متحكمة بموادها وعناصرها، ناقلةً صورة مؤلمة عن واقع الشباب اللبناني.
هكذا، تتوج المصري في شريطها مسيرة سينمائية كرستها لرصد الهامش، بحثاً عن البعد الإنساني الذي تقوم عليه القضايا السياسية والوطنية الكبرى، من لبنان إلى فلسطين. في تلك المنطقة المنسية تنبت الحكايات، وتروح تنتظر من يرويها وينقذها من النسيان. مي المصري حكواتية الأيام العسيرة والأزمنة الرديئة.

الثامنة مساء، في صالة “ميتروبوليس”، مسرح المدينة، شارع الحمراء (بيروت)