strong>حسين بن حمزة
الدراما التلفزيونية في لبنان على المحك، ونتاجها الجيّد شحيح. أما “قصتي قصّة” على LBC، فهو من الاستثناءات النادرة. ما سرّ نجاح هذا المسلسل الذي يجمع أسماء مميزة؟ دمغة “تلفزيون الواقع”، أم الفرجة الراقية التي تحترم ذكاء المشاهد

يطرح مسلسل “قصتي قصة” الذي يعرض مساء كل اثنين على شاشة LBC، أسئلة عدة عن واقع الدراما التلفزيونية اللبنانية... والمشاهد الذي يخاطبه هذا العمل بلغة أقلّ ما يقال عنها أنها تحترم ذكاءه، سيسأل نفسه: لماذا هذا النوع من الأعمال قليل، بل نادر مقارنة مع مفردات الخفة والسطحية والابتذال التي تتسيد معظم ساعات البثّ التلفزيوني؟ يكمن الجواب في معادلة اقتصادية بسيطة تقول: إن البضاعة الرديئة تطرد البضاعة الجيدة. والأرجح أن هذه المعادلة الاقتصادية هي التي تتحكم بطغيان ما هو سطحي وملائم لرأس مال يريد ربحاً سريعاً ومضموناً في أي إنتاج درامي. إنتاج من هذا النوع يتردد، عادة، في خوض مغامرة نوعية تعتمد على الجودة والاختلاف، إضافة إلى أنها غير مضمونة النتائج. ربما هذا هو أحد أسباب لجوء دارينا الجندي (صاحبة الفكرة) وإيلي أضباشي (المخرج) إلى اعتماد فكرة قصص واقعية حدثت فعلاً. وهو ما أعطى لـ“قصتي قصة” نكهة “تلفزيون الواقع”، الصفة السحرية التي تجعل أي عمل يحمل هذه الصفة، يجد سهولة أكبر في التنفيذ. لا بدّ من الاعتراف بأن “الواقع” كما يطرحه التلفزيون قد أفسد المعنى الحقيقي للتلفزيون والواقع في آن. إذ إن العمل التلفزيوني (أو السينمائي) هو أساساً محاكاة لواقع معاش، ويصبح رفع (أو إنزال) هذه الممارسة الطبيعية إلى مستوى “تلفزيون الواقع” أمراً زائداً على الحاجة، ولا مبرر له. ويبقى التبرير لإلصاق صفة “تلفزيون الواقع” بأي عمل درامي أو غير درامي، هو الرغبة في إقناع الجهة المنتجة بتقديم العمل. وهي (أي شركة الإنتاج) غالباً ما تفتّش عن عوامل نجاح تجاري مضمون، قبل النقاش في أي عنصر يتعلق بالمستوى الفني للعمل. واليوم ليست هناك جاذبية أفضل من جاذبية “تلفزيون الواقع” الذي بات العامل الأول في استقطاب المشاهدين والإعلانات معاً. لكن الغريب في الأمر أن “قصتي قصة” وجد صعوبات وعوائق على رغم امتلاكه كلمة “الواقع” السحرية الكفيلة بفتح كل الأبواب. ولا بد من أن مشاهديه محظوظون لأن شاشة LBC وفرت لهم، في النهاية، فرصة التمتع بفرجة درامية راقية.

مشاهد تقليدي كسول

هناك مسألة أخرى يثيرها مسلسل “قصتي قصة”. فالعنوان و“الواقعية” التلفزيونية جعلا معظم متابعيه يركزون على الأفكار الاجتماعية “الجريئة” التي تطرحها كل حلقة، من أجل خلق تشويق إضافي لمشاهد تقليدي كسول. وهكذا راحت العناوين التي يعالجها المسلسل تحضر جنباً إلى جنب، أو تسبق، أي حديث عن أهميته النصية والإخراجية والأدائية. الأرجح أن طريقة تناول الصحافة نفسها أسهمت بتظهير جزء من هذه الصورة، وهي صورة غير منصفة لأنها تهتم بمضمون الحلقات على حساب الحساسية العالية التي عولج بها هذا المضمون. لقد غاب عن بال الكثيرين أن النجاح الذي يحصده إيلي أضباشي وفريق عمله لا يتعلق بكون المسلسل يروي قصصاً حدثت في الواقع فحسب. إذ ركز بعضهم على أن المسلسل يتناول قضايا مستقاة من الشارع مثل وضع الخادمات، والاغتصاب، وسفاح القربى، والزواج بأجنبية، والخيانة الزوجية... وغفل هؤلاء عن أن هذه المضامين ليست سوى بديهيات أي عمل، وأن الرهان الحقيقي يبدأ بالانتقال إلى الخيارات الأسلوبية بعد تحديد البديهيات، أي كيفية تقديم هذه المضامين بإخراج متقن وأداء مقنع وكتابة تلفزيونية ذكية.
أخيراً، وبعيداً من هذه الملاحظات، لا بدّ من القول إن مسلسل “قصتي قصة” يعيد شيئاً من الاعتبار لدراما لبنانية جادة تنجح في الجمع بين طموحات مخرج ذي حساسية مختلفة يحترم خياراته ولا يتنازل عنها، وممثلين يأتي معظمهم من تربية أدائية مبنية على خبرة مسرحية وسينمائية (دارينا الجندي، كارول عبود، رفيق علي أحمد، عمار شلق...)، وكتّاب سيناريو لم تفسد الدراما الدارجة مدوّنتهم السردية الطازجة، وبعضهم أتى من مهن غير تلفزيونية كالصحافة والشعر والمحاماة (علي مطر، سامر حجازي، عبودي الملاح، سمير مراد).
إنها بضاعة تلفزيونية جيدة ولذلك فإن وجودها نادر... وإلا كيف يمكن أن نبرر مخرجاً متميزاً كأضباشي لم يقدّم حتى الآن سوى ثلاثة أعمال تلفزيونية؟