بشير صفير
خلافاً لعازفين ومؤلفين بارزين مثل وليد حوراني وعبد الرحمن الباشا وزاد ملتقى، حققت تاتيانا بريماك خوري نجاحها انطلاقاً من بيروت، حيث تودّع العام، بأمسية عزف على البيانو، هذا المساء في الجامعة الأميركية

ما الذي يجمع فيينا وبيروت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؟ علاقة هاتين المدينتين بالموسيقى الكلاسيكية: الأولى كان يقصدها الموسيقيون (المؤلفون) من جميع أنحاء العالم للدراسة، ولاحقاً لممارسة مهنتهم في الإبداع. أما الثانية، فكان الموسيقيون، من عازفين ومؤلفين، “يهجّون” منها إلى بلدان العالم (ولا سيما أوروبا وأميركا) للدراسة ومن ثم بدء نشاطهم في العزف أو التأليف... وبينما كانت المدينة الأولى “تستورد” العازفين، كانت الثانية منهمكة في “تصديرهم” ولفظهم. والسبب معروف، فحتّى اليوم، ما زالت الموسيقى الكلاسيكية ضيقة الانتشار في لبنان، وتنحصر الى حدّ ما بطبقة اجتماعية معيّنة. والمضحك أنّها ما زالت تقترن بالحداد والموت. فكلّما توفيت شخصية سياسية مهمة في البلد، احتلت الموسيقى الكلاسيكية شاشاتنا وإذاعاتنا على مدى أيام. وبما أن الاغتيالات كثيرة في لبنان، بلغت للأسف ذروتها في الآونة الأخيرة، فقد صارت ثقافة اللبناني في هذا النوع الموسيقي في أعلى مستوياتها... مقارنة بالفترة التي سبقت اغتيال الرئيس رفيق الحريري!
هجرة الموسيقيين
خسر لبنان الكثير من الموسيقيين الجيدين الذين هاجروا، بدءاً من الراحل وليد عقل (عازف بيانو، توفي في فرنسا عام 1997)، ووليد حوراني (عازف بيانو ومؤلف)، وعبد الرحمن الباشا (عازف بيانو)، وزاد ملتقى (عازف بيانو ومؤلف)، وناجي حكيم (عازف أرغن)، وبشارة الخوري (مؤلف)... جميعهم اختاروا المنفى الطوعي، وهي حال كثيرين غيرهم. إلا أنهم يأتون من فترة إلى أخرى إلى بيروت لتقديم حفلة، وسرعان ما يغادرون الوطن الأم إلى أرض الغربة أو لنقل وطنهم بالتبنّي.
ليس المقصود مما سبق رثاء حال الموسيقى الكلاسيكية في لبنان، بل توجيه تحيّة إلى عازفة بيانو من نوع آخر... إنّها تاتيانا بريماك خوري التي اختارت البقاء في لبنان، ولعلّها بين الأكثر نشاطاً على مدار السنة، إذ تمضي في إحياء الأمسيات الموسيقية، غالباً من دون مقابل. تاتيانا لبنانية من أصل أوكراني، وزوجة المؤلف الموسيقي هتاف خوري الذي اختار هو أيضاً “الصمود” أساساً لمسيرته الفنيّة.
تاتيانا من أفضل العازفين في لبنان، وهي من دون شك صاحبة أكبر ريبيرتوار موسيقي في لبنان، أي عدد الأعمال الموسيقية الخاصة بآلة البيانو التي عزفتها حتى الآن. وتكمن ميزتها الأساسية في ظهورها في حفلات متتالية، لا تتعدى المدة الزمنية الفاصلة بينها الأربعين يوماً. والأهم من ذلك أنها بعيدة كل البعد عن الخيارات السهلة التي تستعطف الأذن “الهاوية” على حساب النوعيّة. في كل ظهور لها، تقدم تاتيانا خوري برنامجاً يتضمن أعمالاً صعبة، بعضها جديد لم نسمعه منها في حفلات سابقة.
ولا تستثني من اهتمامها أي حقبة موسيقية، بدءاً من حقبة الباروك، مع دومينيكو سكارلاتي وباخ... وصولاً إلى أعمال جديدة لمؤلفين معاصرين، وتحديداً الأعمال الصعبة التي يكتبها زوجها هتاف، مروراً طبعاً بمؤلفات موزار وبيتهوفن وبرامز وغيرهم.
تاتيانا التي اشتهرت بالأعمال التي كتبت للبيانو المنفرد، لم تهمّش الأعمال الأخرى، وتحديداً موسيقى الحجرة التي تشارك آلة البيانو في تأديتها إلى جانب آلات أخرى، أو كونشرتوهات البيانو التي يعتمد تأليفها على قاعدة الحوار الموسيقي الهادف إلى إبراز قدرات العازف في مواجهة الأوركسترا.
وُلدت تاتيانا في أوكرانيا في عام 1972. درست آلة البيانو في معهد “تشايكوفسكي” للموسيقى في كييف، وحازت شهادتها العليا مع تنويه خاص. كما فازت في مباريات عالمية عدة في مجال العزف على البيانو. وتوزع تاتيانا حالياً نشاطها الموسيقي بين تقديم الحفلات في لبنان والخارج، إضافة الى التعليم في المعهد الوطني العالي للموسيقى، كما تحمل لقب فنانة مقيمة في جامعة البلمند.
قدمت تاتيانا التي تملك ثلاث أسطوانات في رصيدها، حفلات عدّة هذه السنة... كانت أهمها الحفلة التي جاءت تكريماً لموزار في مناسبة الذكرى الـ250 لولادته. وخصّت بيتهوفن بآخر حفلاتها في برنامج مميز، تضمن عزف أربع من أشهر سوناتاته. وسيصدر تسجيل هذه الحفلة في اسطوانة خاصة قريباً.
وتختم تاتيانا سنتها الموسيقية، على صعيد العزف المنفرد، في حفلة ستقدمها مساء اليوم في الجامعة الأميركية في بيروت (قاعة الـ “أسمبلي هول”). يضم البرنامج أعمالاً للمؤلفين الأوكرانيين لياتوشينسكي وليسنكو، إضافة إلى “المقدمة رقم 3” لهتاف خوري و“تمارين البيانو الـ 24” لشوبان، وهو عمل سجّله الكثير من عازفي البيانو العالميين في الاستوديو، لكن قلما تجرّأ أحد على عزفه في حفلة حية، بسبب صعوبة أدائه كاملاً، ولذلك تكاد تكون تاتيانا من العازفين القلائل في العالم الذين يقدمون على هذه المجازفة، والعازفة الوحيدة في لبنان من دون شكّ.
أمسية تاتيانا خوري هذا المساء، ستكون ــ كعهدنا دائماً بالفنانة ذات الثوب الأسود الذي لا يفارقها ــ موعداً مع الأداء العالي الذي نفتقر إليه في لبنان، وفي المنطقة بشكل عام.