strong>حسين بن حمزة
«الأكثر رغبة في الكتابة عن المدن هم الغرباء». وعباس بيضون، في مجموعته الجديدة «ب ب ب» (دار الساقي)، يبحث عن أسباب الكتابة على قارعة المدن، عند مفترق الشعر، في انتظار «الأعمال الكاملة» التي قدّمت لها خالدة السعيد، ورواية ثانية تجري أحداثها في صور، مدينته الأزليّة...

عباس بيضون أحد الشعراء القلّة الذين يشكل صدور مجموعة جديدة لهم «حدثاً» شعرياً حقيقياً. الأرجح أن إصداره الحالي يُشعرنا بعافية للشعر. هذه العافية تمتلك وقعاً مضاعفاً لأنها تخص شاعراً لا تزال فكرة تحدّي نبرته وتجاوز تجربته، ممارسةً مفضلةً في كتابته. المجموعة الصادرة عن «دار الساقي» تحمل عنواناً طريفاً هو «ب ب ب». الباء المتكررة هي الحرف الأول لبيروت وباريس وبرلين. ثلاث قصائد عن ثلاث مدن: «كفار باريس» و»دقيقة تأخير عن الواقع» و»فصل في برلين»، كل واحدة كان لها مزاج أو تجربة أسلوبية خاصة ممتزجة بمناخات متجاورة. فما الذي يجمع نصوص المجموعة الجديدة، هل هو المدن؟ «المجموعة ليست كتاباً في الجغرافيا والعمران» يجيب عباس بيضون، ويضيف: «لا يكون الموضوع أحياناً سوى ذريعة الشعر وسطح المعنى. كتابة نص عن مدينة لا يختلف لدى الشاعر عن كتابة قصيدة حب. فكل نص قابل لقراءات عدة. بالتالي الكتابة عن المدن لن يحوّل القصيدة إلى نصوص في العمران. لكننا لا نستطيع أن نقول إنّ الموضوع في نص شعري هو أمر بلا معنى».
الكتابة عن المدن ليست جديدة على تجربة بيضون، فهو صاحب قصيدة «صور» التي نشرها عام 1985. يقول: «لم تكن «صور» كتابة عن مدينة فحسب، بل كانت عملي الشعري الأول المعروف. كان دائماً يسيطر عليّ شغف بالكتابة عن مدن. هناك مدن استعصت عليّ، فلم أكتب سوى سطرين عن أصيلة المغربية. أعترف أني فوجئت بنجاحي في الكتابة عن باريس، وتعجبت من السهولة التي كتبت فيها عن برلين. أما قصيدة بيروت فقد كتبت تحت وطأة تطلّب شديد. على أي حال، أنا من الذين ينتظرون ليختمر نص في رؤوسهم. أما الهدف أو الموضوع فيخطر لي قبل ذلك بوقت طويل».
لكن هل يمكن التغلب على نظرة السائح في الكتابة عن مدن لا نعيش فيها مثل باريس؟ يجيب صاحب «نقد الألم» (1987): «عين السائح أسرع من عين المقيم. الأكثر رغبة في الكتابة عن مدن هم الغرباء عنها. في الرسم الصيني، هناك ما يسمى منظور الطائر، حيث تُرسم الأماكن من فوق كما لو أنها مرئية بعين طائر. الكتابة عن مدن تتضمن رغبة في رؤيا واسعة. قد يكون طموح الكتابة عن مدينة لا علاقة له بالمدينة نفسها. لا تتطلب كتابة كهذه معرفة متكاملة».
الجيل الوسيط الذي ينتمي إليه عباس بيضون يبدو أكثر قرباً من التجارب اللاحقة من جيل الرواد؟ ألم يعترف بنفسه، في ختام مؤتمر قصيدة النثر الذي عقد العام الماضي في بيروت: «لقد تعلمت منكم أيها الشبان». يقول عباس: «لست أنا فقط من تعلّم من الشعراء الشباب، كل الشعراء يفعلون ذلك. إقرأ أعمال أدونيس الأخيرة، وستجد تحسساً واضحاً لجريان الشعر حالياً. كما أن تفاعل محمود درويش مع قصيدة النثر بات أمراً يعرفه الجميع. الأوائل الأكثر ديناميكية يتفاعلون. ما فعله جيلي وما فعلته أنا هو هذا تماماً. الأجيال تتعلم من بعضها. من المفترض أن ذلك بديهي».
لكن البديهي في نظر عباس لا يبدو كذلك في نظر كثيرين يحلو لهم رفع لواء الخصوصية. يجيب: «يحرص العرب عادةً على نسب ودم صافيين. الأرجح أن التصريح بالمؤثرات يعرِّض هذا النسب إلى التهجين وهذا غير محمود عندنا. صادفتُ في حياتي كتّاباً لا يقرّون باستفادتهم من سواهم. هم آباء أنفسهم، ولم يدخل دم آخر إلى نسبهم. هذا نوع من رؤية «بلدية» الى الثقافة، حيث تتحول إلى فولكلور شخصي. الذين لا يصرِّحون بتأثراتهم يضخّمون معنى التأثيرات. بالنسبة إليهم، تلغي التأثيرات الكاتب. بهذا المعنى، فالشاعر الذي له «سابقة» لا يستحق الوجود. مسألة التأثر كما نتناولها نحن تكاد تكون عربية بحتة. إنكار التأثرات أو إقرارها ليس مطروحاً إلا على العرب. وحين يقول مثقفونا إنهم لم يتأثروا، يبدون أقرب إلى شيوخ ووجهاء عائلات يهمّهم أن يحافظوا على النسب والامتياز الخاص».
رغم ذلك، هناك نرجسية في قلب أي شاعر. أما هو فيبدو كمن يميل إلى زهدٍ في استثمار حضوره الشعري والثقافي المكرّس. يسارع إلى القول: «ما تسميه زهداً ليس كذلك إلا بمقياس عربي. لا أظن أن كاتباً غير عربي يظن اليوم أن الكتابة تسمح بقدر من التعالي والسلطة. الكتابة بحد ذاتها عملية تدعو إلى التواضع، والشعور بضآلة الذات. الكتابة أو القراءة عملية لا تدعو فقط إلى الزهد... بل إلى محاسبة النفس. أقول دوماً إن الدخول إلى مكتبة يصيبني بالكآبة، لأنها تشعرني بالجهل وأنا أرى آلاف الكتب التي لم أقرأها».
لكن يظل هناك حيز لخصوصية ما؟ «ربما» يجيب بسرعة: «لا يمكن التخلص من الخصوصية، لكني لا أحبذ عبادتها. على الكاتب أن يقاتل خصوصيته. ففكرة أن نكتب لنمتلك توقيعاً خاصاً، تبدو أقل من العملية الإبداعية نفسها. الكلام على الخصوصية هو من سمات البورجوازية الصغيرة، إذا تحدثنا بلغة ماركسية. وغالباً ما تتحول الخصوصية إلى تقنية، إلى ادعاء أو اختراع. أعطى الفن الحديث اعتباراً للتقنية، لكن الفن الكبير ليس بالضرورة الأقوى تقنياً. الكتّاب الكبار حقاً لديهم ثغرات، وإذا حاسبناهم تقنياً لن يصمدوا. خذ دوستويفسكي، البناء عنده أقل حتى من البناء عند آغاثا كريستي... فهي أقل إملالاً منه وأقل ثرثرة». لكن ما هي خصوصية عباس بيضون كشاعر؟ يجيب صاحب «خلاء هذا القدح» (1990): «أتخيل نفسي باستمرار عند تقاطع. أريد أن أكون قادراً على إيجاد ربط بين اتجاهات هذا التقاطع. يفتنني الجلوس على تقاطع وخلط الاتجاهات ببعضها. إنه أمر فاتن أن نستطيع إدخال النثر الصحافي أو الفلسفة أو التصوير الفوتوغرافي في الشعر. يفتنني كثيراً أن أرى الشعر من وجهة نظر الرسم أو الفلسفة. أفكر دائماً في إمكان استخراج نواة شعرية من نصوص فكرية. قد تكون هذه مجرد أحلام، لكن وجودها كدافع قد يعني شيئاً في الكتابة، فنحسب أننا حققنا هذا الطموح الذي لا يتحقق أبداً. قد يصلح ذلك سبباً للكتابة نفسها. لطالما فكرت بخلق نص من المادية والجدل الداخلي والدقة غير الموجودة بداهة في الشعر. أرغب أن يكون الشعر محل إدخال عناصر متنافرة وربطها».
الشاعر الذي فاجأ قرّاءه قبل سنتين بإصدار رواية بعنوان «تحليل دم»، فرغ من روايته الجديدة، وقد اختار لها عنواناً مؤقتاً هو «البشر والحجر» وتدور أحداثها في صور منتصف الثمانينيات. أما أعماله الشعرية الكاملة التي كتبت مقدمتها الناقدة خالدة سعيد، فكان من المفترض أن تصدر بالتزامن مع معرض الكتاب في بيروت. لكن كسل عباس في تدقيق البروفات الشعرية ــ كما يعترف بنفسه ــ وعدم جلده على تبييض مسودة روايته، أجّل صدورها. ليس لدينا سوى الانتظار.