حسين بن حمزة
من مجموعة إلى أخرى، يواصل جودت فخر الدين عــــــمله على عبارة شعرية بسيطة ومـــــــــتقشفة تجمع بين وضوح المعالم وعمق المعنى. لا يمــــــــــــتلك المعنى هــــــــنا عــــــــــــمقه من الإيغال في الغموض أو التعـــــــــقيد اللغوي، بل من الجرعة التأمـــــــــــلية والميــل إلى فلسفة ذاتيـــــــة في رؤيــــــــــة الأشياء والموضوعات. العمق، بهـــــــــذا المعنى، هو عمق التجربة الشخصية ومدى استثمارها في الكـــــــــــتابة. الأرجح أن هذا هو سبب توقّع القارئ غالباً أن يجد نبرة شعــــــــــرية مـــــــــــتروية ومتمهلة في أي قــــــــصــــــيدة لجودت فخر الدين.
التروي والتأمل والتقشف البلاغي والغناء الخافت والميل إلى إحاطة منطقية ودقيقة بمادة القصيدة، هي معظم السمات التي نجدها في مجموعته السابعة “ليس بعد” (دار رياض الريس للكتب والنشر)، حيث يتبدى أسلوب جودت فخر الدين في كتابة قصيدة ذات فكـــــــــــــرة واحدة تقريباً، تخضع لنظام إيقاعي وغنائي صارم ومدروس، فلا يعلو الغناء على حساب النبرة الشعرية ولا يعوق الإيقاع العالي والصاخب مرونة المعنى.
بهذه الطريقة، يتخلص الشاعر من عيوب عدة لصيقة بـ“قصيدة التفعيلة”، بل إن قارئ هذا الشعر قد يظن، وهو يتجول بين القصائد، أنه يقرأ نثراً غير موزون وغير موقّع، لولا أن قافية هنا وأخرى هناك تذكره بأن الإيقاع موجود، ولكنه، على أي حال، موجود بالكمية والكيفية التي يفضلها الشاعر، والمتلائمة مع صوته الشعري.
منذ القصيدة الأولى “في مساء شتائي”، يفصح جودت فخر الدين عن مكوِّن خاص في تجربته، فهو حين يهدي القصيدة إلى الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور كأنما يقرّ بميله إلى لغةٍ ومقاصد شعريةٍ محددة: “كأني بك الآن تعبر ذاك المساء/ الذي متّ فيه وحيداً/ تعود إلينا كما كنت دوماً/ بسيطاً، حزيناً/ تقول كأنك في الصمت تحيا/ وتجتذب الصمت فيما تقول”. الصمت هنا (والحزن والبساطة أيضاً) هو نظير التأمل. في تذكّر عبد الصبور قرابة وتأثر ومجاورة محببة لشاعر يفضّل أن ينجز قصيدته بأقل ما يمكن من الضوضاء والجلبة. إنها قصيدة نأمات وإيحاءات، قصيدة تذهب إلى موضوعها بلا استعجال وبلا ضجيج.
الواقع أن هذه السمات تتوزع، بنسب متفاوتة، على القصائد العشر التي تضمها المجموعة. ولعل قصيدة “ليس بعد” التي سُمّيت المجموعة بها، تلخص الخيار الشعري الذي يفضله الشاعر، سواء على صعيد النبرة أو الموضوع. فالقصيدة المكتوبة تحت وقع تجاوز الشاعر لخمسين العمر، تكشف معظم الممارسات الشعرية التي تدور قصيدة جودت فخر الدين في ملكوتها. فهو في مطلعها يطالب روحه بعدم التسرع: “ليس بعد/ تمهل/ فما زلت تُخمد وهماً/ لتنعش وهماً/ وأيامك الآن قشٌّ يغرّد في القفر/ لم تحترق كلها/ لم يزل يتحرّق فيها هزيعٌ من الشوق”.
يقدم هذا النص، وهو أطول نصوص المجموعة، تشريحاً إبداعياً وافياً لكل ما يشغل بال قصيدة جودت فخر الدين، ففيها تتجاور الرغبة في كتابة وجدانية تأملية ومتمهلة، مع الرغبة في جعل المنجز الشعري مساوياً لمواده ومكوناته اللغوية والأسلوبية.
تتكرر هذه الممارسة الشعرية داخل قصائد أخرى في المجموعة، كما هي الحال في قصيدة “رأيت الغروب كثيراً”، حيث يذهب الشاعر إلى موضوع تأملي يفتح شهية نبرته على البوح بأسرارها، والحال ذاتها نجدها في قصيدة “شظايا”، وفيها يعاين الشاعر آثار الحرب الإسرائيلية الأخيرة على مـــــــــساقــــــــــط طفولته وأمكنته الأولى. صحيح أنه يكتب الحرب، ولكن جودت فخر الدين يفعل ذلك بطريقته هو، فتصغي قصيدته إلى ضباب القرى وشرفات البيوت وروائح البشر بدلاً من الوصف المباشر للحرب.

بعد إلغاء معرض كتاب بيروت، قرر رياض الريّس أن يطلق، على طريقته، الإصدارات الجديدة لدار النشر التي يديرها في بيروت، وبينها كتابه «الحرب المنسية». ينظم الكاتب والناشر المعروف حفلة توقيع لمجموعة من كتّاب داره، هذا المساء في مقهى «سيتي كافيه»، شارع السادات (الحمرا)، بحضور جودت فخر الدين صاحب المجموعة المشار إليها أعلاه، وغسان شربل الذي جمع حوارات سبق نشرها في “الحياة” في كتاب بعنوان «ذاكرة الاستخبارات»، ومي منسّى التي تقدم روايتها «أنتعل الغبار وأمشي»، ونصري الصايغ الذي يوقّع كتابه السجالي دفاعاً عن المقاومة «حوار الحفاة والعقارب»، وفواز طرابلسي الذي يعيد نشر طبعة جديدة منقحة من يومياته خلال حصار بيروت (1982) «عن أمل لا شفاء منه»، بعد مرور ربع قــــــــــــرن على الاجتياح الإسرائيلي.