حسين بن حمزة
في مجموعة “الغيوم التي في الضواحي” (دار النهضة العربية) التي تسكنها روح كربلائية، يستعير محمد علي شمس الدين وجوهاً من التاريخ، ويرثي من رحلوا... ويطلق صرخته الطالعة
من جحيم الحرب الأخيرة


يضع الشاعر محمد علي شمس الدين معظم نصوص مجموعته الشعرية الجديدة “الغيوم التي في الضواحي” (“دار النهضة العربية” - بيروت) بتصرف آخرين، يرثي بعض من رحلوا ويستعيد غيرهم من التاريخ. يحاور الجميع، ويقدم إليهم صداقة الشعر.
الشعر في نصوص كهذه يتحول إلى رهان مزدوج الهوية. فهو يطارد سيرة الآخرين ومكانتهم لدى الشاعر، لكن الشعر، في الوقت نفسه، ينشئ ممالكه العالية، بحسب عنوان أحد دواوين الشاعر.
هكذا يجمع شمس الدين بين كون هؤلاء موضوعاً يستدعي الشعر، وبين كونهم ذريعة لاستحضار فنه الشعري الخاص الذي يتدفق عادةً بذريعة أو بلا ذريعة.
التدفق والسيولة والارتجال والتلقائية، هي بعض المفردات التي تليق بنبرة هذا الشاعر. وهي نبرة تبدو أحياناً كأنها نبرات عدة مضفورة في صوت شعري مفرد. التلقائية والسيولة اللغوية والتصويرية المتوافرة بقوة في عبارته الشعرية تؤمّن لنبرته طابعاً نشيدياً وجماعياً، فيبدو صوته صوت جماعة وصوت فرد في آن معاً. الأرجح أن هذه السمة الواضحة تختزل جزءاً كبيراً من تجربة شمس الدين التي أفصح فيها منذ مجموعته الأولى “قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا” (1975) عن صوت قوي ومتانة لغوية ومعجم واسع ومخيلة بلاغية خصبة.
صورة الشاعر فرداً وممثلاً لجماعة هي، على أي حال، تذكير بمنزلة الشعراء في التراث العربي وخصوصاً في العصر الجاهلي، حين كان الشاعر صوت قبيلته وراوي أخبارها وأيامها. وهذا يُنشئ لصاحب “أميرال الطيور”(1994) نسباً شعرياً مثنوياً، فهو رغم حداثته ومحاولاته الدؤوبة لتطوير أدواته وتوسيع عوالم شعره وتنويع مناخاته، يظل مشدوداً إلى تراث شعري خصب. والواقع أن الجملة التي ينجز بها شمس الدين نصوصه تكون غالباً موزعة بين توقها الى حداثة مطلوبة وضرورية، وبين التفاتها إلى ماض شعري سحيق.
في “الغيوم التي في الضواحي” لا يتخلى شمس الدين عن نبرته المفضلة ولا عن ارتياداته، سواء على صعيد الشكل أو المضمون. بل إن القصيدة نفسها تسلس له القياد، فيمرّغها في سؤال التجربة وسؤال الرؤيا، بحيث يكون النص المنتج خلاصة لحساسية ذاتية ومناجاة كونية. ثم إن الشاعر الذي أتقن صنعته قادر ليس على جذب الكلمات والصور والاستعارات إلى فخاخ قصيدته، بل نجده ميالاً إلى “استعراض” هذه الخبرة بوصفها نوعاً من الخصوبة اللغوية والشعرية التي جرت تربيتها والعناية بها على مدى سنوات مديدة من معاشرة الشعر، كتابةً وقراءة.
تضم المجموعة الجديدة اثنتين وعشرين قصيدة. القارئ، كما أشرنا في البداية، يجد حواراً مع شخصيات، وتأريخاً لأحداث واستشرافاً لها أحياناً. لكن صاحب “منازل النرد” (1999) يفتتح مجموعته بمديح الشعر نفسه، لكن من خلال الموسيقى. فمن مقولة لـ “معبد” المغني العباسي الشهير، يذكّر الشاعر قارئه بأن الموسيقى قادرة على فتح حصون أشد من الحصون التي فتحها قتيبة بن مسلم في خراسان: "معبد / الذي مال من نشوةٍ / في الثياب القشيبة / كان يروي لأصحابه / قصة عن رؤاه العجيبة / قال: / إني فتحت بصوتي الزمان / والقصور المهيبة / وفتحت المكان / والسماء القريبة ...”.
مغزى ذلك هو تباهي الشاعر بقدرته ومرونته الإيقاعية. الإيقاع جزء من لعبة الشاعر. وبسبب خبرته الطويلة، ينجح في مزج الإيقاع مع مواد القصيدة. ولعل هذا المزج هو أحد المصادر الكبرى التي ترفد قصيدته بالنسغ والحياة. الإيقاع هو احتياطي هذه القصيدة وخضرتها وسيولتها. محمد علي شمس الدين هو شاعر إيقاع. الإيقاع هو عصب جملته الشعرية التي تتنفس في الحاضر والراهن لكنها مشدودة إلى تراث وفصاحة وجزالة موغلة وشديدة الثراء. والشاعر يعرف كيف ينتقي لقصيدته ما يعينها على أن تكون معاصرةً وغابرةً في وقت واحد، أن تكون قادرة على الطيران بجناحين. ولعل إكثاره من ذكر أسماء وكتب وأخبار وشخصيات يدل ـــ إضافة إلى ضرورات الشعر ـــ على ولع واضح بمحاورة الماضي في لباس معاصر. هكذا يحضر المتنبي، والفارابي، والحلّاج، وليلى وقيس، والبراق، وابن حزم، وشهرزاد وشهريار ... لكن هؤلاء يحضرون إلى جوار “آمنة” أم الشاعر، وبدر شاكر السيّاب، ومؤنس الرزاز، وسلفادور دالي، وداني بسترس ... وبين هؤلاء وأولئك، تحضر الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان. والقصيدة التي حملت المجموعة اسمها كتبت ونشرت بينما كانت الحرب تواصل تدمير الحجر والبشر، أما الشاعر فيعلن في صرخة مليئة بالشعر أنه لا يملك سوى الكلمات: “إنها الحرب / ما حيلتي / أقول لكم / ليس في قدرتي أي شيء لأمنعها / ولست قوياً كما قد يخيل لي / كي أضيف إلى نارها جمرة واحدة / أنا الكلمات .. الكلمات”. وقبل ذلك، يقول: “ولكنها الحرب / أقوى وأعظم من كل ما يكتبه الشعراء / وما يحلم الحالمون / فاعذروني إذن / أيها الذاهبون إلى الموت”.
وهناك، داخل هذا المشهد، سيرة أخرى تتحرك تحت سقف هذا الإيقاع وتحت سطح المعاني. إنها الروح الكربلائية التي تصاحب رؤيا الشاعر. صاحب “يحرث في الآبار” (1997) يعلن بوضوح انتماءه إلى بشر وقرى وضواحٍ، خالطاً، في صنيعه هذا، بين انحيازه الذاتي وسعيه الشعري. حتى إنه في قصيدة “عرس القاسم” يستدعي مقطعاً من السيرة الحسينية نفسها. وكذلك يفعل في قصيدته عن العراق.