بيار أبي صعب
مع بدء جردات الحساب الثقافية التي ترافق عادةً نهاية العام، لا يمكن أن نترك المناسبة تمرّ من دون التوقّف عند تجربة سينمائية خاصة، أثارت الكثير من الاهتمام خلال الأشهر الماضية. فبين الأفلام اللبنانية التي أنتجت خلال العام المنتهي، وشاركت في مهرجانات عدّة من لوكارنو (سويسرا) إلى دبي أخيراً، مروراً بـ“مهرجان طنجة للسينما المتوسّطيّة” (المغرب)، هناك شريط خاص على أكثر من صعيد، ينساه النقّاد غالباً ــ لسبب ما ــ عنوانه “إلى اللقاء قريباً”. يحمل الفيلم توقيع المخرج فؤاد عليوان (1964). وهو فيلم روائي قصير (25 دقيقة)، من هنا ربّما صعوبة تصنيفه بين القوالب الجامدة التي تتحكّم عادة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بمعاييرنا النقديّة. لكن “إلى اللقاء قريباً” (إنتاج ليناني ــ سويسري مشترك) يندرج إلى حدّ بعيد في سياق تجربة عليوان السينمائية. فالفيلم يحمل النفس والقالب والأسلوب وغير ذلك من السمات التي عوّدنا عليها هذا المخرج الشاب، منذ “شوق مريض لوطن مريض” (1991)، فـ“حائط المبكى” (1993)، و“الليلة الزرقاء” (1998)، وصولاً إلى “هوا بيروت” (2002)، و“يا سلام” (2004قائمة أعماله لا تضمّ سوى أفلام قصيرة، أخرجها عليوان منذ عودته من كاليفورنيا، أسوة بكثير من أبناء جيله في السينما والفيديو، ممن تلقّوا إعدادهم، وخاضوا تجاربهم الاحترافية الأولى أحياناً، في أوروبا وأميركا. وهذا المخرج الذي يعمل منذ أشهر في التلفزيون أيضاً (برنامج “العدسة العربية” ــ “الجزيرة”)، مراهناً على توظيف الشاشة الصغيرة في خدمة الفنّ السابع، تقوم خصوصيّة تجربته على لغة فيلمية خارجة عن النطاق النمطي السائد طبعاً. لكنّها أيضاً مرتبطة بالقالب الفني أو “الفورمات” التي يحقق فيه أفلامه. وكما تبدو القصّة القصيرة مهملة ومنسيّة غالباً في عالم الأدب، لمصلحة الرواية، يجد الفيلم الروائي القصير نفسه ــ عربياً ــ في حالة “تهميش” مشابه، بالنسبة إلى الأفلام الطويلة عامةّ. هكذا صفّقنا لغسان سلهب (“أطلال”)، واحتفلنا بميشال كمّون (“فلافل”)، واحتفينا بفيلم مي مصري الجديد (“يوميات بيروت”) الذي مددت صالة “ميتروبوليس” في شارع الحمراء (بيروت) عروضه طوال هذا الأسبوع... ونسينا فؤاد عليوان علماً أنّه كان من العلامات الفارقة للموسم السينمائي الماضي.
فيلم “إلى اللقاء قريباً” الذي يعتمد على إمكانات تقنيّة أوروبيّة أساساً (تصوير الأستوني آرفو آيهو، مونتاج الفرنسي دومينيك ماركومب، موسيقى الأرمني اللبناني فاتشيه كالندريان)، يدور تحديداً حول إشكالية الهويّة والانتماء التي سبق أن عالجها على طريقته مخرج لبناني آخر من جيل فؤاد عليوان، هو زياد الدويري في آخر أفلامه “ليلى قالت ذلك”. عائلة لبنانية في سويسرا، تكتشف أنّها بعد عشرين سنة من الهجرة، ما زالت مكانها، تتنازعها قوى متعاكسة: من جهة، جذور وعادات وذهنية لم تتغيّر كثيراً من خلال التماس مع ثقافة البلد المضيف، ومن الجهة الأخرى، مجتمع يبدو للوهلة الأولى مضيافاً وكريماً، يتلقّف الغريب في أحضانه... لكنّه يتركه، حيث هو، غريباً خارج دائرة الانتماء الحقيقية. خلفية الحرب هنا... نشتمّها بقوّة في “إلى اللقاء قريباً”، كأننا بالمخرج الذي ينتمي إلى جيل الحرب يصفّي حساباته معها. والعائلة تبدو قالباً قسرياً من خلال علاقات الأب (نقولا دانيال) والأم (جوليا قصّار) التي تعيد انتاج قيم ثقافية واجتماعية بعيدة، وصعبة المراس والتغيير. والابنان يحاولان الخروج على السلطة القديمة، بحفلاتهما الماجنة لدى غياب الأهل، لكن سدىً! ما معنى البقاء في سويسرا إذاً؟
يبدي المخرج سيطرة تقنيّة ودرامية على فيلمه ذي الطابع الفكاهي الخفيف، مع بعض الاستثناءات التي تكاد اللعبة فيها تفلت منه. لكنّ عليوان، في النهاية، يفلت من الميلودراما، ليصوّر إشكالية الهجرة في بلد معظم شعبه “مهاجر” بمعنى ما، أو على صلة وطيدة بالمهجر، مادياً وثقافيّاً. إنّه فيلم عن تلك العلاقة الصعبة بين نقيضين، هما من صلب الشخصيّة اللبنانية... القائمة على الفصام.