الرباط ــ ياسين عدنان
يعرف المغرب منذ سنوات مناخاً من الحرية النسبية في مجالات الفكر والإبداع والإعلام. لكن الكاتبة الشقية سناء العاجي، أشعلت النار من غير قصدها. جمعت “مجنونة يوسف” آخر النكات الشعبية، ونشرتها في مجلّة معروفة بتحدّي المحظورات، فقامت الدنيا ووصل الغضب إلى... الكويت!

لم تكن سناء العاجي تتوقعّ، وهي تعدّ ملفاً عن النكات ليُنشر في العدد الحادي والتسعين من مجلة “نيشان” الأسبوعية في المغرب، أنهــــــــا ستصير عنواناً رئيسياً لنشرات الأخبار في القنوات المغربية. فالملف الطريف الذي جاء في عشر صفحات تحت عنوان “النكات: كيف يضحك المغاربة على الدين والجنس والسياسة”، لم يكن عملاً استثنائياً بالنسبة إلى هذه الكاتبة والصحافية المغربية التي تُعَدُّ النكتةُ مهنتَها اليومية. هـــــــــذه الأديبة الشابة التي سبق لها أن نشرت رواية جريئة تحت عنوان “مجنونة يوسف” (2003) أعلنت فيها فرحها العلني بالحب والجسد، هــــــــــي أميرة للنكات على الإنترنت. أصـــــــــدقـــــــــــــاؤها الإلكترونيون من صحافيين وكـــــــــــتاب في المغرب والعالم العربي يتلقون منها بوتيرة منتظمة عشـــــــــــرات النكات الطازجة. لكن هذه المـــــــــــــــرة، قررت سناء أن توسع الدائرة قليلاً. لماذا لا تقترح الأديـــــــبة الشابة نكاتها “الشقية” على العموم؟ كان الأمر أشبــــــــــــه بنزوة صغيرة تحمست لها سناء وتبنتها إدارة المجلة التي تعمل فيها. وسرعان ما تطور الأمر إلى ملف كامل عنونته سناء بالعبـــــــــــارات التالية: “النكات ملح الحياة. والمغاربة كغيرهم يضحكون على كل شيء: العلاقات الجنسية المحرمة دينياً، الملك المــــــــــــــقدس رسمياً، الإســــــــــــــــلام المنزه عقـــــــــــائدياً، وما إلى ذلك”. ثم بدأت تحــــــــــــلل النكات المغربية وتتـــــــــناول أكثرها إثارة للضحك. لكن الكاتبة لم تحــــــــــسب حساب الثالوث المحرّم الذي طالما أثار الرعب في ديار العرب: الدين والجنس والصراع الطبقي... كما حدّده المفــــــــــّر الـــــــــسوري الراحل بو عــــــــلي ياسين.
“أسوأ” من الرسوم الدانماركية
الشرارة الأولى انطلقت من موقع إلكتروني سلفي هدد أصحابه بملاحقة المجلة، وإطلاق التظاهرات ضدها. ثم فوجئ المصلون في أحد مساجد مدينة آسفي، بخطيب الجمعة يصف صحافيي المجلة بالمرتدين، طالباً من الله أن يشتت شملهم. وكرّت سبحة التنديدات مشيرةً إلى أن ملف “نيشان” عن النكات أكثر إساءة للإسلام من رسوم الصحيفة الدانماركية. لكن المفاجأة الحقيقية جاءت من خارج الحدود المغربية، حيث أصدر مجلس الأمة الكويتي بياناً شديد اللهجة ندّد فيه بما ورد في الملف. كما طالب الحكومة المغربية بـ“ضرورة اتخاذ أقصى الإجراءات القانونية لردع كل مجرم تسوّل له نفسه التعدي على الدين الإسلامي”. وإذ بالنيابة العامة في الدار البيضاء تأمر بملاحقة كل من سناء العاجي وإدريس كسيكس مدير مجلة “نيشان” بجنحة “المس بالدين الإسلامي، ونشر وتوزيع مكتوبات منافية للأخلاق والآداب”. وهو القرار الذي أيّده المجلس العلمي الأعلى والرابطة المحمدية لعلماء المغرب.
لكن المفاجأة الأكبر ستتلقاها سناء وزملاؤها، وهم يتابعون نشرة الأخبار في التلفزيون المغربي الذي أذاع بلاغاً لرئيس الوزراء المغربي إدريس جطو أعلن فيه باسمه وباسم الحكومة “منع عرض مجلة “نيشان” في الأماكن العامة، ومنع توزيعها بأي وجه من الوجوه إثر نشرها نكاتاً تتضمن مساساً بالدين وبمشاعر المغاربة”.
القرار جاء صادماً. حتى إن الصحافيين والكتاب المغاربة الذين وجدوا عدداً من النكات المدرجة في ملف المجلة غير لائق، وحتى أولئك الذين لا يتفقون مع الخط التحريري للمجلة، ويجدون في تعاطيها مع مسألة التابوهات الكثير من التنطح والنزق، كلهم وجدوا أنفسهم متضامنين مع مجلة جاء منعها ــ بقرار حكومي ــ تعسفياً، لأنه استبق ببساطة قرار القضاء.
حاكموا الشعب المغربي
صحافيو “نيشان” الغاضبون من المنع علّقوا على قرار الحكومة، موضحين أن بيانها “يتحدث عن نكات تمس مشاعر الشعب المغربي. بيد أن تلك النكات ليست إلا إنتاج هذا الشعب نفسه”. وذهبت منظمة “مراسلون بلا حدود” إلى القول في بيان أصدرته أنّ إجراءات المنع “عائدة إلى حسابات انتخابية عشية استحقاقات الانتخابات التشريعية في المغرب في العام المقبل، وقد تشهد دفعاً قوياً للتيار الاسلامي”.
لكن ذلك لم يمنع المجلة التي صدرت في أيلول (سبتمبر) 2006 ولقيت رواجاً في أوساط الشباب المغربي، ولا سيما أنها تكتب بالعربية المغربية الدارجة، من نشر بلاغ اعتذار للمغاربة جاء فيه: “إننا لم نقصد من خلال هذا الملف مس مشاعر أي قارئ مسلم. وإن اعتبر بعضهم الأمر كذلك، فنحن نشدد على حسن نيتنا، ونعتذر لهم بشدة خصوصاً أن عملنا كصحافيين قائم أساساً على احترام القارئ”.
وقد صدرت أحكام صارمة بالسجن أو بدفع غرامات بحق صحف عدة في المغرب خلال السنة الجارية بتهمة التشهير “والتطاول على رؤساء الدول الأجنبية أو النظام الملكي”... لكنها المرة الأولى التي تمنع فيها السلطات صحيفة من الصدور والتوزيع.
على أي حال، القضية ما زالت تتفاعل، والصحافية سناء العاجي وادريس كسيكس سيمثلان أمام المحكمة في الثامن من كانون الثاني (يناير) المقبل. أطراف متعددة دخلت على الخطّ تحرّكها الحكومة، الإسلاميون، نقابة الصحافيين، وبعض المنابر الإعلامية بحسب توجّهات كل منها. لكل حساباته وخلفياته المتباينة. لكن المؤكد أن “القراء” الذين تدعي كل جهة التحدث باسمهم ليسوا ضمن هذه الأطراف.