strong>مهى زراقط
كيف يبدو لبنان، بنزاعاته الراهنة، في عيون
صحافيّة سويسريّة جاءت تغطّي طريقة احتفال الناس بالميلاد؟ السلوك (القاموس) السياسي مختلف هنا... وكل الاعتبارات والمحظورات لا علاقة لها بالتقاليد الديموقراطيّة المتعارف عليها في «العالم الحرّ»!


“الصحافي الأجنبي هو أكثر قدرة على طرح الأسئلة الجيدة”، هذا ما تقوله الصحافية السويسرية لوتشيا موتيني التي جاءت إلى لبنان محمّلة بالأسئلة، فاصطدمت بحواجز غير مرئية، واكتشفت أن ما يبدو بديهياً بالنسبة إليها، يصنّفه الكثير من الصحافيين الذين التقتهم في لبنان، في خانة الـ“تابو”...
سألت أحد الوزراء مثلاً: “لماذا تطالبون بإنشاء محكمة دولية لكشف قتلة شخص واحد هو رئيس سابق للحكومة؟”. السؤال بديهي بالنسبة إليها، وهي تطرحه على نفسها منذ بدأت تتابع أحداث لبنان تمهيداً لزيارتها. وتقول موتيني التي تابعت أخبار المحاكم الدولية في كوسوفو ورواندا: “أفهم أن تقام محكمة دولية بعد انتهاء حرب ما، وبعد ارتكاب مجازر جماعية. أنتم مثلاً، انتهت الحرب عندكم ولم يحاكم أحد... يصدمني أن أعرف أن من يطالب بإنشاء المحكمة الدولـــــــــــية هم الأشخاص أنفســـــــــــهم الذين يجب أن يحاكموا بسبب جرائمهم”.
لم تخبر موتيني الوزير الذي قابلته عن صدمتها تلك، لأنه عاجلها بصدمة ثانية: قال لها إن لبنان ليس قادراً أن يكتشف بنفسه المجرمين الذين اغتالوا الرئيس الشهيد رفيق الحريري! “إنّه لأمر غريب حقاً أن أسمع كلاماً مماثلاً على لسان وزير... أن يكون الاعتراف بالعجز بديهياً إلى هذا الحد، حتى يصبح من السهل قوله لأي صحافي”.
لكنها في نهاية المطاف تتفهّم هذه “الصراحة” من وزير لبناني “معتصم” في السرايا الكبيرة. وهذه هي المفاجأة الثالثة الفريدة من نوعها التي لا يمكن رؤيتها إلا في لبنان: “منذ كلّفني مديري في الإذاعة السويسريّة المجيء إلى هنا، وأنا أتساءل كيف يمكن وزراء أن يعتصموا؟ قد تكون المرة الوحيدة في العالم التي تعتصم فيها حكومة للمطالبة بالاستمرار في الحكم”.
قدمت لوتشيا موتيني إلى لبنان لتغطية احتفالات عيد الميلاد لراديو سويسرا الناطق باللغة الايطالية. وتوضح: “مدير الإذاعة هو الذي اختار لبنان بسبب الحرب، إضافة إلى وجود طوائف عدّة عندكم”. وحضرت موتيني رحلتها بحثاً وقراءة. وجاءت تريد المقارنة بين اعتصاميْ السرايا الكبيرة من جهة وساحتي الشهداء ورياض الصلح. تقول: “لا أعرف إن كان أمراً عادياً بالنسبة إليكم. حكومة تشعر بأنها مجبرة على النوم في القصر الذي تحكم فيه، خصوصاً أن الوزراء مهددون بالاغتيال. أعتقد أنهم يعانون بعيداً من عائلاتهم، مهددين بالموت”. أما المواطنين المعتصمين في الساحتين، “البعيدين أيضاً من منازلهم والذين ينامون في الخيم”... فتأثرت بما قالوه لها، واكتشفت أنهم عانوا الحرب، وعاشوا تحت القذائف الاسرائيلية، وفقدوا أفراداً من عائلاتهم”.
هطذا وجدت موتيني نفسها أمام مقاربة مختلفة للأحداث والصور، “استغربت وجود صورة السنيورة وهو يقبّل رايس على أحد الجدران، لم أفهم أنها مستفزة إلى هذا الحدّ. ولم أستطع إخفاء دهشتي، عندما عرفت أنهم يسخرون من دموع السنيورة، لأن هذه الصورة بالتحديد أدت دوراً كبيراً في خلق التعاطف مع لبنان. لكن عندما استمعت إلى شكواهم من الأسلحة الأميركية فهمت سبب نقمتهم”. لكن المعتصمين “مدعومون من دول أجنبية، تريد التدخّل في شؤون لبنان” يقول بعضهم (!) “قد يكون هذا صحيحاً، لكنني لا أعتقد أنها القراءة الوحيدة لما يحصل في الساحة. الناس الذين قابلتهم عاشوا الحرب، عانوا الجوع ودمرت بيوتهم. كل هذا حقيقي ولم يخترعوه. هؤلاء عانوا ويعانون صعوبات جمّة، لذا من الطــــــــــبيعي أن يطــــــالبوا بحياة أفضل”.
أما الأمر الأكثر غرابة، بالنسبة إليها، فهو توصيف الوزير علاقته بالمعتصمين في ساحة ملاصقة للمكان الذي يتحدث منه: “إننا لا نسمعهم... لا نسمع صراخهم”. تعتبر هذا السلوك غريباً من سياسي في السلطة: ألا يعير أذناً مصغية إلى المتظاهرين الذين يطالبون باستقالته: “أقلّه ليس سلوكاً معهوداً عندنا، على رغم أننا نعاني أحياناً اللغة الخشبية لبعض السياسيين”. لذلك شعرت زميلتنا البعيدة، في لحظة ما، بعجز مهنتها: “كان الناس يرغبون فعلاً في الحديث. اعتقدوا في البداية أنني فرنسية، فحمّلوني رسائل إلى جاك شيراك. أعرف أني لن أوصل الرسالة إلى المكان الذي يرغبون في إيصالها إليه. لا لشيراك ولا للسنيورة. سأوصل رسالتهم إلى مواطنين سويسريين... قد لا يعنيهم في الخبر أكثر من مجرد معرفة كيف يعيش أهل دول أخرى عيد الميلاد”. لكنه يبقى خبراً مختلفاً: “لبنان بالنسبة إلينا هو الحرب والاغتيالات. هذا ما يصلنا عبر وكالات الأخبار... الخبر الذي يهتمّ بعدد الموتى هو الذي يجد له مكاناً في نشرات الأخبار”.