رامي بليبل
أهل بلدة الهرمل كلهم يعرفون “أبو نائل”. يعتقدون أنه يرى في حبره ترياقاً خاصاً وفي أحرف مطبعته العتيقة اللامعة أملاً يتجدد فيه رغم بلوغه السبعين، والهمّة والعزيمة وجمال الروح .
اسمه محمد تاج الدين آل مؤمن، هو رجل يعشق الورق وشغــــــوف بالكلمات، يترك منزله صباح كل يوم متجهاً إلى مطبعته التي لا تتــــــجاوز مساحــــــتها مساحة عرزال في سنديانةٍ عجوز، وقد رتبها لتسحر العين، فهنا مقطع الورق، وهناك الطاولة حيث تطرح الأحرف “بغنج ودلال”، وفي الزاوية مساطر الصّف بقياساتها المختلفة وجلود التغليف (من النوع الأول) ورزم الورق المتعدد الألوان والأحجام. أما في الوسط فيقبع كرسيه الخيزراني المتشرب من حبر مئات الجرائد والمجلات وآلاف الكتب، فقد سهر الرجل العجوز الليالي ليصفَّ حروفها صفحة تلو صفحة، ولم يكن يبرح مكانه إلاّ بعد أن يطمئن إلى أن ما أنجزه هذا اليوم “هو المطلوب لإنجاز العمل في وقته المحدد” كما يقول، ويضيف: “الرجل يربط من لسانه ووعد الحر دين عليه”.
منذ خمسين سنة يعمل “أبو نائل” في صف أحرف الجرائد اليومية والأسبوعية ويمتهن التجليد الفني لنتاجات المؤلفين والباحثين والطلاب، وهو يتباهى بأن الكتاب يخرج من بين يديه “جوهرة” قالباً ومضموناً، يبهر الناظرين، ولا سيما بعد أن يضيف إليه أحرفاً وزخارف عربية بلون الـــــــــذهب أو الفضة.
يحلو لأبو نائل الحديث عن بداياته فيقول: “عندما كنت صغيراً كنت أتعمد المرور من أمام مطبعة الضيعة، يدفعني شغفي لهذه المهنة فأقف خلف زجاج بابها الخشبي أسترق النظر وأسرح في خيالات وأحلام كنت أحسبها بعيدة، وهــــــــــكذا حتى انتهيت من دراستي وتسلـــــــمت وظيفتي التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فهرعت إلى صاحب المطبعة طالباً العمل معه بعد دوام الوظيفة. وهكذا صار، إلى أن أصبحت لي مطبعتي الخاصة وبات صبي آخر يقف عند الزجاج يسترق النظر إلي وأنا أعمل فيذكرني بأيامي الخوالي”.
ويضيف: “كانت هواية عندما كنت صغيراً، ففي الوقت الذي كان أي صبي يحلم بلعبة أو دراجة أو سيارة، كنت أحلم بمطبعة. وبعد إتقاني للعمل بسبب شغفي الكبير بهذه المهنة، اتسعت شهرتي، وصار يقصدني القاصي والداني، وأنا رغم مرور السنين أشعر بأن كل ليلة في عملي أجمل ما في حياتي حيث أشهد ولادة مولود جديد”.
يستعين “أبو نائل” في هذه الأيام بابنه الذي حفظ “الصنعة” عن ظهر قلب وحفظ وصية والده التي يرددها دائماً على مسمعه ومسمع الوافدين إليه: “الأمانة والدقة والضمير في العمل زيت الصنعة الذي يبقي سراجها منيراً على الدوام”.
التهمت المطبعة عمر أبو نائل ولياليه، ولكنه ليس نادماً، يحزن إذ يرى صنعته لم تعد رائجة، لكنه يصر عليها، ولا يهتم كثيراً للمردود المالي، فهو على أي حال يعيش في بلدة تعاني إهمالاً كبيراً، ولا تعيرها السلطات المختصة الاهتمام اللازم.