strong>الرباط ــ ياسين عدنان
امرأة وحيدة على الخشبة تعيد للدم طراوته في زمن المجازر. إنها الممثلة المعروفة ثريّا جبران التي تقدّم في دمشق نصّ جان جينيه “أربع ساعات في شاتيلا” من إخراج عبد الواحد عوزري، أحد أبرز وجوه المسرح المغربي

كان الكاتب الفرنسي جان جينيه بين أول الذين دخلوا مخيمات صبرا وشاتيلا في أيلول (سبتمبر) عام 1982، بعيد المجزرة الفظيعة التي ارتكبتها إسرائيل بمساعدة ميليشيات لبنانية موالية لها. وقف صاحب “البلكون” و“العبيد” و“مذكرات سارق”، برفقة صديقته ليلى شهيد، شاهداً على المأساة التي أعادته إلى الكتابة بعد عشرين سنة من الصمت. كان جينيه قد اعتزل الكتابة، متنكراً لأدبه كلّه، ولم يكن أحد يتوقّع أن يعود إليها مجدداً، ليترك بعض أجمل صفحات في مسيرته الإبداعيّة، وأكثرها قوّة وعنفاً، وأنضجها فلسفياً ووجودياً. هكذا، أبصر النور نص “أربع ساعات في شاتيلا” الذي نشره في مجلة الدراسات الفلسطينية في بداية عام 1983. كتب في لحظة مفجعة تحت وطأة الصدمة، وأمام إلحاح المشاعر والصور والكلمات القاطعة.
قدم هـــــــذا النصّ مرّة، قبل أربع سنوات، على الخشبة العربيّة التي لا تربطها عــــــــــــلاقة وطيدة بمسرح جينيه، إذا استثنينا “الخادمتين” لجواد الأسدي وتجارب قليلة أخرى. أخرجته يومذاك الفرنسية كاترين بوسكوفيتز، وأدّته بشكل لافت الممثلة اللبنانية الشابة سوسن بوخالد. وكان أن عاد إليه أخيراً ــ في زحمة المجازر الإسرائيلية بين لبنان وفلسطين ــ المسرحي البارز عبد الواحد عوزري، مستعيداً بعد طول انقطاع علاقته بالمسرح، بالاشتراك مع رفيقة دربه الممثلة ثريا جبران التي يقوم عليها العرض منفردة.
عن طريق الثنائي عوزري وجبران، مؤسسي فرقة “مسرح اليوم” المغربية، يعود جينيه اليوم إلى المشرق العربي، وتحديداً إلى دمشق، ليس بعيداً عن عمّان، حيث عاش مع الفدائيين الفلسطينيين في قاعدة سريّة أيام أيلول الأسود. بعد مرور 36 سنة على أيلول الأسود، و24 سنة على مجزرة صبرا وشاتيلا، لا تزال كلمات جينيه حاضرة بفظاعة. الحصار ما زال قابضاً على الأرواح. والسفّاح الذي مارس القتل في شاتيلا صار اليوم أكثر استئناساً بدم ضحيته. لذا أضحى القتل مهنته ونشاطه اليومي. ومع خفوت الأصوات الغربية الحرة التي كانت قضايا الشعوب العادلة تجد في مساندتها بعض العزاء، لم يبق هناك من خيار غير استعادة جينيه، هذا المتمرد الضاري من خلال نصه الأشبه بصرخة: “أربع ساعات في شاتيلا”. كان هذا النص الــــــــنواة المولّدة لكتاب أكثر توهجاً هو “أسير عاشق” (دار غاليمار ــ 1986) كتابه ــ الوصيّة الذي كان منهمكاً في مراجعته حينما فارق الحــــــــياة في صمت يوم 15 نيسان (أبريل) 1986 في فندق باريسي متواضع.
أما نصّ “أربع ساعات في شاتيلا” الذي نُشر في الأساس على أنه مقال سياسي، فيحمل الكثير من روح كاتبه، ويرقى إلى مقام الأثر الأدبي. إنه بتعبير الأديب محمد برادة الذي أنجز ترجمته العربية “أكثر من شهادة. هو تعبير شعري عن حب الثائرين المضطهدين. وكتابة جينيه ــ عموماً ــ فعل مقاومة، لأنها تنتشل من القفر الموحش كلمات وصوراً تنتصب في وجه اللامبالاة، وتتحدّى الجلادين المزهوين بانتصاراتهم”.
فرقة “مسرح اليوم” التي عوّدت الجمهور المغربي والعربي عموماً التعامل مع النصوص الصعبة، بل الممتنعة أحياناً، اختارت من خلال هذا العمل، السفر إلى شاتيلا عبر نص جينيه، رغم خلوّ هذا الأخير من الصور التي تساعد عادة في بناء العمارة المشهدية.
يسلّط المخرج عبد الواحد عوزري بعض الضوء على هذه المغامرة قائلاً: “إنها مغامرة. تقديم هذا النص الشعري القوي الذي يتميز بالابتعاد عن الزخرفة التي تؤثث في الغالب النصوص الشعرية، هو فعلاً مغامرة حقيقية. إن نص جينيه لا يدَّعي لنفسه سوى أن يكون شاهداً. فأي لغة يمكن أن يستعيرها الشاعر للتكلّم عن مجازر صبرا وشاتيلا سوى لغة الحقيقة المطلقة؟”. انطلاقاً من هنا، يضيف عوزري: “ينخرط هذا النص في الكوني. فعلى رغم بساطة الكلمات التي تصف لنا الجثث التي نتركها بلا صلاة، هذه الشهادة تجعلنا نكتشف جان جينيه من خلال فتنة الموت وانبجاس الجمال. كتب نص “أربع ساعات في شاتيلا” في أيلول (سبتمبر) 1982. والعرض الذي نقترحه ليس إعادة تجسيد للتاريخ، ولا محاولة للانغماس في المسرح الوثائقي. طموحنا هو أن نستعيد صرخة الألم التي أطلقها الكاتب”.
وفعلاً، تنجح ثريا جبران في بلورة صرخة الألم هذه بالكثير من الرهافة، والقسوة أيضاً. نص جينيه الذي لا يتعدّى عشرين صفحة، يستغرق تمثيله ساعة كاملة، تستحوذ فيها ثريا كلياً على انتباه الجمهور. وعلى رغم أنّ جبران تصعد عادة إلى الخشبة بأكثر من جسد، اختارت في هذا العرض بالذات التركيز على إلقاء النص في نوع من العواء، ومن الغناء الموتور الضاري. هي لا تحكي فقط، بل ترشق الصمت بحجارة الأنفاس وتشحذ كلمات جينيه الجارحة على مبرد الألم. كانت تنفخ من روحها في جثت الضحايا لا بغرض إعادة الحياة إليها، بل لكي يستعيد الدم طراوته، فتتذكر الندوب أنها كانت ــ ولا تزال ــ جراحاً.



عودة عوزري

قبل 20 سنة، اكتشف المشرق العربي مخرجاً مغربياً شاباً يغرد خارج سربه. كان ذلك في “مهرجان دمشق المسرحي”، حيث قدّم عبد الواحد عوزري، احتفالاً مشهدياً بعنوان «حكايات بلا حدود»، عن نصوص لمحمد الماغوط. الفنان الذي بدأ حياته الإبداعيّة إلى جانب معلّم كبير هو الطيّب الصديقي، لفت النظر بقدرته على خلق مناخات مشهدية خاصة، فوق خشبة متقشّفة، تستمدّ زخمها من أداء الممثلين...
وخاض مع ثريا جبران في «مسرح اليوم»، مسيرة استثنائية مغربياً وعربياً: من “بوغابة” (اقتباس القاوتي محمد لمسرحية بريخت “السيد بونتيلا وخادمه ماتي”)، و«نمرود في هوليوود» (عبد الكريم برشيد)، إلى «نركبو لهبال» (لنمتطِ الجنون) و«سويرتي»... ثم ابتعد عن دائرة الضوء، فكدنا نعتبره بحكم المستقيل. اليوم يحتفل الجمهور بعودة عوزري إلى دمشق، وأيضاً بعودته إلى المسرح.