strong>القدس المحتلة ــ نجوان درويش
“المسرح الوطني الفلسطيني” وصل أخيراً الى دمشق! ليست مشاركة فرقة “المسرح الوطني الفلسطيني” في مهرجان دمشق هذه السنة بالحدث العادي. إذ سيتمكن من تقديم عرضه العربي الأول، بعدما حققت “الجدارية” إقبالاً استثنائياً في فلسطين منذ بداية عرضها العام الماضي. مسرحية نزار أمير زعبي المقتبسة عن “جدارية” محمود درويش، وجدت طريقها الى خشبات عالمية في إسبانيا وسويسرا والسويد والدانمرك. وعرفت التكريس عندما قرر المسرحي بيتر بروك استضافتها في “هيكله” الباريسي Les Bouffes du Nord، في شباط المقبل. لكنّها بقيت محرومة من لقاء الجمهور العربي. من هنا أهميّة المشاركة في مهرجان دمشق، وإحياء النص ــ الملحمة الذي خلّد فيه درويش الصراع الجماعي “ضد موت الهوية وموت المعنى”.
بعد اختيار قصيدة محمود درويش لتكون عملاً مسرحياً، طرح نزار زعبي (1976) على نفسه سؤالاً حيوياً على رغم بساطته: “كيف يمكن أن يترجم الشعر على منصة المسرح؟ كيف يمكن الصور الجمالية والتشابيه الشعرية أن تتجسّد في دراما مسرحية؟ أعاد المخرج الفلسطيني نبش سؤال مطمور حول موقع الشعر في المسرح، وفي شكل خاص في المسرح العربي”. مسرحية “الجدارية” تعيد الى الأذهان “المسرح الشعري” الذي انحسر تماماً في العقود الأخيرة، ولم يعد خياراً وارداً لدى المسرحيين العرب. إلى أي مدى يمكن تقديم الشعر مسرحياً؟ وأين التجربة الشعرية العربية الحديثة، وخصوصاً قصيدة النثر، من المسرح؟ أسئلة تغري جميعها بتتبّع الأشكال التي قُدّم فيها الشعر على المسرح العربي، لطرح السؤال عن مكانته اليوم: والى أين وصلت علاقة الشعر مع المسرح عربياً وعالمياً. وهل ستنبه “الجدارية” المسرحيين العرب إلى إمكانات كامنة في التجربة الشعرية العربية الحديثة؟
من جهة أخرى، “نجا” مخرج “قصص تحت الاحتلال” (2001) من فخ التعامل “الفولكلوري” مع نص محمود درويش، وتحويله إلى “عتابا” فلسطينية مكررة، بل ذهبت مخيلة زعبي بعيداً في رسم مشهدية بصرية غنية، وطوّعت مسرحياً مطولة شعرية غنائية تزخر بالبلاغة والترجيعات العاطفية والتكرار والبذخ الجمالي. وقد ساعده في ذلك الإعداد الذي أنجزه خليفة ناطور بالتعاون مع المخرج (وبموافقة الشاعر)، حيث انتُقيت مقاطع شعرية واستُغني عن أخرى، وقُطّع النص الى 13 مشهداً بما يخدم الحبكة المسرحية. وقد وازنت “قلة افتتان” المخرج بالتعاطي مع سطوة الشعر وظاهرة “الشاعر الرمز”،
“افتتان” معدّ النص المسرحي بـــــــالشعر. هذا الافتتان نال بعض الشـــــــــيء من أداء ناطور أثناء تمثيله دوراً أساسياً في “الجدارية”. إذ بدا أحياناً ــ على رغم براعته كممثل ــ مستغرقاً في “الإلقاء” الشعري. ومع ذلك، جاء النص هنا، عنصراً من جملة عناصر تصنع المسرحية، وليس العنصر الأساسي. حتى خيّل إلينا أن المسرحية قد “تقف على قدميها” في بعض المشاهد، حتى من دون النص الشعري... وأن حركة الممثلين الثمانية، وبقية العناصر البصرية والصوتية تستطيع وحدها أن تفي بالغرض المسرحي.
وإلى جانب الغنى البصري، كسر الإخراج “جهامة الشعر” بالإيقاع الساخر المتوتر للمسرحية. إذ توازن “برود الإخراج” ــ أي التخفيف الضروري من حرارة النص الشعري ــ مع الجانب الغنائي للمسرحية الذي أدته في شكل رئيس ريم تلحمي بإمكاناتها الخاصة كمغنية، إضافة الى أدائها المسرحي المعقول، وخصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أنها كانت إطلالتها الأولى على خشبة المـــــــــسرح، ولحسن الحظ، لم تكن الأخيرة: إذ ظهرت تلحمي ــ وقد طورت قدراتها كممثلة ــ في مسرحية “عرس الدم” كما قدمها مسرح “القصبة” أخيراً عن نص الشاعر فدريكو غارسيا لوركا.
المشاهد الذي يذهب الى مسرحيّة “الجدارية” بحثاً عن قصيدة محمود درويش، فلا يجدها بحرفيتها، لن يخيب ظنّه تماماً... لأنه سيجد عملاً مسرحياً متكامل العناصر ينسيه القصيدة ــ ولو إلى حين ــ لمصلحة العرض المشهدي والمسرحية.