بيار أبي صعب
تطفئ «أيام قرطاج السينمائية» هذا العام شمعتها العشرين. المهرجان التونسي العريق الذي يفتتح يوم ١١ الجاري، يحتفي بنجيب محفوظ، ويكرّم يسري نصر الله. تكريم سابق لأوانه؟ أم اعتراف متأخر بجيل سينمائي يبحر عكس التيار؟

يلتقي يسري نصر الله وإلياس خوري مجدداً في تونس بعد أيّام. قبل سنتين حقّق يسري فيلمه الملحمي «باب الشمس» عن رواية إلياس خوري بالعنوان نفسه (شارك محمد سويد في كتابة السيناريو)، فأعطى السينما العربية ـــ بعد قرابة ستين سنة على النكبة ـــ فيلمها عن ملحمة الشعب الفلسطيني، من ١٩٤٨... وصولاً الى وحول الحرب الأهليّة اللبنانية. كانت السينما العربية تفتقر الى مشروع ضخم يوازي فيلم أوتو بريمنغر Exodus الذي مجّد الرواية الصهيونية لاحتلال فلسطين. جاء فيلم يسري نصر الله الطويل ليملأ هذا الفراغ. علماً أنّ الشريط الذي لا يشبه تجاربه السابقة، ذاتي بقدر ما هو تاريخي، ووجودي بقدر ما هو سياسي... «باب الشمس» يستعيد فصولاً من المأساة الفلسطينية، من وجهة نظر أفراد وقصصهم الحميمة ومعاناتهم الشخصيّة...
في الجزء الأوّل من الفيلم، وهو بعنوان «الرحيل»، يستعيد نكبة ١٩٤٨بأسلوب أقرب الى الملحميّة مقدّماً ـــ للمرّة الأولى في السينما الروائيّة العربيّة ربّما ـــ الرواية العربيّة للنكبة، في مواجهة أفلام عالميّة كرّست الرواية الصهيونيّة في ذهن المتفرّج الغربيأما الجزء الثاني، «العودة» فيستأنف الصلة بالبعد الحميمي والذاتي والشخصي الذي ميّز سينما هذا المخرج. وغداً يلتقي المخرج المصري والروائي اللبناني في إطار الدورة العشرين من «أيام قرطاج السينمائيّة». الثاني يرأس لجنة تحكيم الأيام، أما الأوّل فهو لا يحمل معه هذه المرّة فيلماً جديداً. سيحل ضيفاً على المهرجان العريق. ضيف شرف، اختارت إدارة قرطاج تكريمه على مجمل تجربته التي تتميّز بقدر غريب من الفرادة.
«أيام قرطاج السينمائيّة» التي اقترنت بسينما الاختلاف، وراهنت منذ انطلاقتها الأولى على سينما المؤلف أو سينما المخرج، تسلّط الضوء هذا العام على تجربة خاصة في السينما المصريّة والعربية... تجربة يصعب تصنيفها في الخانات النقدية الجاهزة، من ”واقعيّة جديد» وغيرها.
وإن كنا نتمنّى أن يتأخر هذا التكريم أعواماً عديدة، لأننا نعتبر أن يسري نصر الله لم يعطِ حتّى الآن إلا جزءاً مما يعتمل في داخله من تجارب ومشاريع. ويُخشى أن يسارع أهل المهنة والجمهور إلى وضعه مبكراً على عروش التكريس. لكنّ المخرج الذي يغرّد خارج سربه على خريطة السينما العربية، لن يتركهم يدخلونه إلى متحف السينما. سيفلت حتماً من هذا الفخّ، كما سبق أن أفلت من سواه. من كان يتوقّع للناقد السينمائي المميّز في جريدة «السفير» خلال الحرب الأهليّة، أيّام كان يجمع بعض طلاب معهد الفنون ويعرض لهم أفلاماً «صعبة» لجان ماري شتراوب مثل «مذكرات آنا ماجدالينا باخ»، من كان يتوقّع أن يشقّ طريقه في عالم الفنّ السابع ويحتل في جيله موقع الصدارة؟ من كان يتوقّع لـ «تلميذ يوسف شاهين»، ومساعده في «حدوتة مصريّة» و «وداعاً نابليون»، أن يطير بجناحيه بعيداً عن التأثرات الشاهينية؟ اللهمّ إلا النزعة الى الاختلاف ومواجهة الواقع الشائك ـــ السياسي والاجتماعي العام ـــ بذاتية آثرة؟...
يسري نصر الله سينمائي مصري لا تشبه أفلامه السينما المصريّة ـــ أو على الأقل الصورة السائدة (الطاغية) عنها... مع أنّها تنتمي بعمق إلى الواقع المصري. واقع آخر، عصري، حميم، بعيد عن الايديولوجيا، يفلت من الكليشهات التي تكسح الشاشة، عولج بتقنيات مغايرة للسائد، بلغة تستعير من العصر الذهبي للسينما الإيطالية تارة، ومن أعمال طليعية أخرى من السينما العالمية في حالات عدّة.
أفلام يسري يمكن اختصارها برحلة البحث عن «الفرد» المفقود في السينما العربية. ولد السينمائي المصري بعد قيام ثورة يوليو بثلاثة أيام، في أسرة «ارستقراطية»... هذا العبء العائلي، سيتخلص منه منذ فيلمه الأول «سرقات صيفية» (١٩٨٨) حيث يتناول ظروف قيام طبقته وحكاية انهيارها... بعد قيام الثورة الناصريّة.
في فيلمه الثاني «مرسيدس» (١٩٩٣) اختار يسري نصر الله أن يتناول العنف في مجتمع يعيش في دوامة التحولات... من التطرف الديني إلى الفساد السياسي. ثم حقق نصر الله فيلماً تسجيلي القالب بعنوان «صبيان وبنات»، يتمحور حول شخصية ممثل شاب هو باسم سمرة الذي اكتشفه في فيلمه السابق. ويغوص في الأبعاد الاجتماعية لظاهرة الحجاب في مصر. ومثل باسم سمرة في «صبيان وبنات»، يحلم علي، بطل «المدينة» (٢٠٠٠)، بالسفر إلى فرنسا. يواصل يسري في هذا الفيلم، طرح مأساة الفرد العربي في مواجهة الميكانيزمات الجامدة التي يشهرها المجتمع في وجه أبنائه: سطوة الأب، الكبت الجنسي، الأزمة الاقتصادية التي تفضي الى هدم سوق المدينة القديم. يعود بطل «المدينة» من رحلته مهزوماًً. لكنّه هذه المرّة... يقرر المواجهة. شخصيات يسري نصر الله تبدو غالباً قادرة على الوقوف مجدداً بعد انكسار. كأننا بهذا السينمائي يعتبر أن حجر الأساس هو معركة الفرد العربي في مواجهة آليات سحقه. ولعل السينمائي المصري ـــ بهذه الصفة ـــ سيتوّج هذا العام قيصراً في قرطاج!