نور خالد
كان المتحدث باسم مكتب “الشهيد الصدر” في بغداد يحاول تصريف أطنان الأدرينالين التي اجتاحت شرايينه، بعد سماعه نبأ الحكم بإعدام صدام حسين. في ذلك الوقت، كانت قناة “الجزيرة” قد اتصلت به، لتسأله عن “مشاعره في هذه اللحظة وكيفية تلقّيه (وأبناء جلدته) الخبر”.
بدا مذيع “الجزيرة”، للوهلة الأولى، “لاجماً” انفعالاته. استبشر بعض المشاهدين “خيراً”، خصوصاً أولئك الذين توقّعوا أن رد الفعل الاول الذي ستأتي به القناة، بعد انتهائها من نقل الوقائع المسجلة للجلسة، سيصدر عنها “شخصياً”، لا عن أحد ضيوفها.
لقد عودتنا “الجزيرة” أن تكون حاضرة طرفاً رئيساً في بعض القضايا الشائكة التي “تغطيها”، ولا تكتفي بمجرّد نقل الحدث. وملف صدام حسين، تحديداً، يبقى في تاريخها الذي مضى عليه عشر سنين، “المسلة” التي “تنعر” شعار “الرأي والرأي الآخر”، بما يوحي من موضوعية وتجردففي الزمن الذي واكبت فيه القناة حكم ما بعد صدام، لم تتورع عن أن تكون “أم الصبي” الذي كان عليها أمس أن “تنعاه”. سرعان ما خاب ظن “المستبشرين خيراً”، إذ خرج المذيع عن حياديته الظاهرة، ليعلن رد فعل القناة، وإن “خبّأه” تحت الأسئلة التي واجه بها الناطق عن “مكتب الشهيد”، وإلا كيف لنا أن نفهم المناسبة والسياق والوظيفة التي تقف خلف سؤال المذيع عن تلك المقارنة الكمية “المعتلّة” بين جرائم الاحتلال الاميركي وجرائم صدام؟
سأل المذيع: “حسناً، هل تعلم كم قتل صدام من العراقييين؟”. رد الناطق: “صدام الهدام، الناطق بالكفر، قتل من اربعة الى ستة ملايين عراقي”. رد المذيع: “الى أي تقارير تستند؟”. الناطق: “لا تحضرني في هذه اللحظة عناوين محددة للتقارير، إنها تقارير مشاعة”. المذيع: “على أي حال، سيدي، من السهل أن نسوق الارقام من دون دلائل”.
وفي لحظة تنافس غير مفهومة بين مذيع “مسلّح” بالأرقام و“ضيف” مباغت باتصال “شرس” من الدوحة، قال المذيع: “لقد كشفت دراسات أميركية أنّ أكثر من 650 الف عراقي قد قتلوا، حتى اللحظة، خلال فترة وجود الاميركيين في بغداد.. هل تعرف شيئاً عن هذه الأرقام؟”. لم يكن الناطق باسم “مكتب الشهيد الصدر” يتوقع أن يحرجه المذيع، لأنه لا “يحفظ الأرقام”. لذلك، اكتفى بعدم فهم السؤال الثاني، وظنّ، كما تبدّى من إجابته، أن صدام قتل من العراقيين 650 ألفاً.
انتهت المحاورة، بالهدوء الذي أراد المذيع أن يبديه، وعلى رغم أن لسان حاله يصرخ “أجل... لقد تمكنت من تسجيل موقف وإطاحة ممثل مكتب الشهيد الصدر”.
لا ينبغي أن يلتبس علينا الأمر. لم يكن محاور “الجزيرة” فيصل القاسم، بل توفيق طه، مذيع الأخبار الذي كان يغطي هواء المحاكمة وردود الفعل عليها. لكنه قرر، بدلاً من ذلك، أن يدلي بدلوه، خارج السياق، عبر إثارة الشفقة على صدام “الضحية”.
ما حاولت “الجزيرة” أن تحجبه هو أن محاكمة احتلال مجرم لحاكم مجرم لا تعني أن الثاني ضحية، وإن كان الأول فاقداً لشرعية المحاسبة والعقاب... وهذا ما يعيه كثيرون، ومن دون العودة الى الأرقام!