strong>حسين بن حمزة
رشيد الضعيف طائر يغرّد خارج السرب في فضاء الرواية العربية، بعيداً من الغنائية والإطناب، يكتب بلغة عادية مخاطباً “الأمي والعامل والفيلسوف”. زيارة لصاحب “عزيزي السيد كاواباتا” الذي صدرت روايته “إنسي السيارة” أخيراً في ترجمة فرنسية عن دار Actes Sud

تتصف روايات رشيد الضعيف بلغتها العادية والمتواضعة في أدبيتها. لكن هذه اللغة تتحالف مع أحداث وشخصيات تشبهها، لتقديم رواية أبطالها ليسوا نماذج، بل بشراً عاديين يشعر القارئ بأنهم لا يختلفون عنه. حتى حين كتب عن الحرب، لم يستسلم لعنفها الخارجي بل فضّل الذهاب إلى انعكاساتها وتفاصيلها المهملة وغير المرئية على الانسان.
من النادر أن يسمح أي كاتب بالنيل من موهبته، لذا لا بد من أن يُصدم القارئ حين يسمع رشيد الضعيف يقول عن نفسه: “أنا شخص غير موهوب، أنا مجرد عامل، وعملي هو كتابة الروايات. أنا صاحب مهنة ولست أكتب الرواية فقط عندما يتوافر لي الوقت. تفكيري وهواجسي كلها مركزة على موضوع الرواية. إنه عمل بدوام كامل كما يقال”.
وإذا كان صاحب “عزيزي السيد كاواباتا” (1995) يتعامل مع نفسه كصاحب مهنة، فإن ممارسته الروائية تجسّد هذه الطريقة في التفكير والكتابة. في معظم رواياته، يعثر القارئ على سرد لحياة يومية تشبه حياته هو كقارئ، إنه يقرأ حكايات وتصرفات أناس عاديين. هل هذا النوع من الكتابة يجعلها أقل أدبية؟ يجيب: “هذا هو الأسلوب الذي أحب الكتابة به. أنا لست أديباً، أو في شكل أدق أسعى حتى أبطل أن أكون أديباً. الأديب هو الذي يكتب كتابة جميلة ويسعى إلى الأدب الجميل. أنا خارج هذه الإشكالية، وأعتقد بأنه ينبغي للرواية أن تكون خارج هذه الإشكالية”.
ما يقوله رشيد قد لا يقبل به كثيرون؟ ومع هذا، يضيف: “أعتقد أن التيار العام في الرواية اليوم يخرج عن الأدبيات. هناك تفاوت في ما يُكتب من روايات، لكنه تيار عام يتحرك الروائيون ضمنه حتى لو لم يدروا بذلك، وأنا أعي هذا وأشجع عليه. باختصار، لا أريد أن أكون أديباً”.
لكن ألا تصبح الرواية بتخلّيها عن الأدبية أقرب إلى شرائح واسعة ومتنوعة من القراء، وخاصة أولئك الذين يفضّلون القصص السريعة والخفيفة؟ “حلمي أن أُقرأ من الأمي والعامل والفيلسوف”، يجيب رشيد الضعيف، “لذلك أبني عبارتي على البساطة ما أمكن، لا أقصد السطحية بل البساطة الشفافة التي تكشف الأعماق. هذه رغبتي وإرادتي. أما إلى أي مدى أنجح في ذلك فهذا أمر آخر. أظن أن هناك تعالياً لا مبرر له على القارئ العادي. بالنسبة إلي، أحاول وضع نفسي في جلد الشخصية التي أكتبها. وأجرب أن “أحلَّ” المشاكل التي تعترضها، واضعاً نفسي في خدمة أفكارها وهواجسها، متبنّياً أفكارها ومشاعرها وأذهب في ذلك أبعد ما يمكن”.
ألهذا فضّل رشيد الضعيف استخدام ضمير المتكلم، بل أطلق اسمه هو على بعض أبطال رواياته، كما في “ليرنينغ إنغليش” (1998) و“تصطفل ميريل ستريب” (2001)؟ “أفعل ذلك لأنه يشعرني بالحرية. اختياري لهذه الطريقة يعنيني أنا ولا يعني القارئ، لكنّ لهذا وقعاً إيجابياً يشد القارئ إلى الرواية. هناك تكثيف لمتعة القارئ عندما يتسنى له أن يقرأ رواية يُخيل له أنها سيرة ذاتية في الوقت نفسه. لهذا استعملت اسمي، وهذا الاستعمال له مبررات أخرى جاءت من زمن الحرب، وهو قناعتي بأني مهم كالقضية ويجب ألا تكون أي قضية أقدس من حياتي ووجودي. استعمال اسمي تأكيد على الذاتية والفردية. وأحس أنني أقرب إلى النص حين أستخدم اسمي”.
لعلّ هذه الفردية تجد جذورها في بدايات رشيد الضعيف الشعرية. قبل انتقاله الى الرواية، صدرت له ثلاثة كتب: “حين حل السيف على الصيف” (1979)، و“لا شيء يفوق الوصف” (1980) و“أي ثلج يهبط الآن بسلام” (1993). لكنّ رشيد يملك نظرة مختلفة الى الموضوع: “لم أعتبر نفسي يوماً شاعراً. كنت أكتب أشياء أرفض أن أسميها شعراً، بل وضعت في أول كتابي “لا شيء يفوق الوصف” تنبيهاً بأني لا أسمّي ذلك شعراً. كتبي الثلاثة أصفها بالشعرية لكنها ليست شعراً. أعرف أن كثيرين يسمونها شعراً ومنهم الصديق الراحل وأستاذنا جمال الدين بن شيخ الذي ترجم لي “حين حلّ السيف على الصيف” إلى الفرنسية. لِمَ الانتقال إلى الرواية إذاً؟ “على رغم أني نشرت ثلاثة كتب، لم أكن مرتاحاً في هذا الموقع، هذا على مستوى المشاعر الذاتية. أما على مستوى التحليل، فالرواية هي هواء هذا العصر. هناك انتقال عام وإقبال على كتابة الرواية. عباس بيضون، مثلاً، وبعد مسيرة شعرية طويلة ومميزة، ها هو يكتب الرواية”.
رواية الضعيف “إنسي السيارة” (2002) نزلت أخيراً إلى المكتبات الفرنسية، بترجمة تحمل توقيع المستعرب المعروف إيف غونزاليس ــ كيخانو، وهي الرواية السادسة له تُنقل الى لغة موليير. هل يعتقد الكاتب أن لترجماته هو وغيره من العرب صدى ملموساً عند القارئ الفرنسي؟ يجيب: “أنا شخصياً يصلني صدى إيجابي. وأعرف ذلك من مثقفين يقرؤونني مترجماً، الأدب العربي يجد طريقه بالتدريج إلى قراء أجانب. خذ مثلاً رواية “عمارة يعقوبيان” لعلاء الأسواني باعت 80 ألف نسخة في فرنسا. هناك جهات تهتم بالحوار الإيجابي بين العرب والفرنسيين، والسبب يعود إلى جهودنا كمؤلفين ومترجمين ودور نشر مهتمة بالترجمة”.
هل تعيش الرواية اللبنانية حالة ازدهار كما يقول بعض النقاد؟ وهل للحرب دور في ذلك؟ يسارع الى القول: “أنا أرى أن عدد من يكتبون الرواية في لبنان أقل مما ينبغي. فعلى رغم أن فترة الحرب منتصف السبعينيات وما تلاها حتى اليوم شهدت غزارة في كتابة الرواية، الا أن عدد الروائيين كان يجب ان يكون أكثر”.
هل يمكن القول بأن الحرب حطمت إلى حد ما صورة “لبنان الشاعر” حسب عنوان كتاب معروف لصلاح لبكي؟ “لا شك في أن لبنان تعرض لتحولات كثيرة. قد تكون الحرب جعلت الناس تحس بتاريخيتها. عند أكثر الشعراء، الشعر هو سهولة. الرواية تتطلب جهداً ووقتاً. من يكتب الرواية ينتمي إلى التاريخ، بينما الشعر هو انتماء إلى المطلق. التاريخ عمل والمطلق وحي. لحسن الحظ أن هناك تياراً واسعاً للشعر التاريخي في لبنان، شعر عباس بيضون مثلاً ينتمي إلى التاريخ لا إلى المطلق. وهناك من سميناهم شعراء الحرب أو المتاريس: فادي أبو خليل ويحيى جابر وشارل شهوان ويوسف بزي... هؤلاء ضمن هذا التيار، ما يكتبونه ليس تنويعاً لغوياً، بل فيه رائحة المدينة وأحداثها”.