strong>رلى راشد
كاتب أميركي يفوز بأرفع الجوائز الأدبية الفرنسية؟ تلك التي تحمل اسم الأخوين إدمون وجول غونكور... الأبوين الشرعيين للرواية الواقعية الفرنسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؟ ليس الأمر مستغرباً حين يكون الفائز الذي أعلنت عنه الأكاديمية أمس في باريس، هو الأميركي جوناثان ليتل الذي يكتب بلغة موليير، والذي فاز بجائزة الأكاديمية الفرنسية خلال الشهر الماضي... علماً بأن الجائزة الأساسية التي فاز بها ليتل هي إقبال القرّاء. إذ باعت روايته “المتسامحات” Les bienveillantes قبل فوزها بغونكور ٢٠٠٦، مئتي ألف نسخة، منذ صدورها في أيلول (سبتمبر). فيما أجمع النقاد الفرنسيون على اعتبارها “تحفة الموسم الجديد” و“اكتشاف أدبي عظيم”... حتى بدا هذا الكاتب النيويوركي كأنّه البطل الفعلي للموسم الأدبي في باريس. إلا أنّ شائعات سرت أمس عن احتمال حجب الجائزة عن جوناثان ليتل. لا بسبب حصوله على جائزة الأكاديمية الفرنسية قبل أيام، وترشيح روايته للجوائز الست التي يدور حولها الموسم الأدبي، بل بسبب “حفلة كباش” لاحت في الأفق بين ليتل المشاكس وأكاديمية غونكور... قبل ساعات من إعلان النتيجة!
الكاتب المتقشّف في إعطاء المقابلات وغير المبالي بالجوائز، أطلع أنطوان غاليمار، أحد أعضاء لجنة غونكور التحكيمية ورئيس مجلس إدارة “دار غاليمار” (ناشرة روايته) أنه سيمتنع عن الحضور الى مطعم دروان الباريسي لتسلّم الجائزة في حال فوزه. وكاد الأمر يتحول أزمةً، لولا إصرار أعضاء الأكاديمية على اختيار “المتسامحات” منذ الجولة الأولى للتصويت، بسبعة أصوات مقابل ثلاثة. بذلك، يكون ليتل أطاح ثلاثة منافسين جديين هم آلان: فلايشير (“العشيق الصغير” ـ منشورات سوي)، وميشال شنايدر (“مارلين، الجلسات الأخيرة” ـ منشورات غراسيه)، وفرنسوا فاييخو (“غرب” ـ منشورات فيفيان آمي).
“المتسامحات” قصة أخرى من دفاتر الحرب العالمية الثانية تتّخذ شكل شهادة عن مثقف مرهف يستحيل جلاداً بعدما ينضم الى القوات النازية الخاصة ويقوم بتصفية نظاميّة لليهود والغجر ومعارضي الرايخ الثالث. إنها باكورة لابن الصحافي والكاتب الأميركي روبرت ليتل المتخصص في الرواية التجسسية.
قبل نصف قرن جاء كتاب روبير ميرل “الموت مهنتي” ليعطي الكلمة لرودولف هوس، قائد معتقل أوشفيتز، في مذكرات متخيّلة، وأثارت التجربة الروائية حفيظة بعضهم. وها هو ليتل يفسح المجال لضابط رفيع في الجيش الألماني، كي يستعيد سنوات خدمته بين عامي 1941 و1944... رأى بعضهم خيار ليتل في نكء الجراح عملية تسويقية ترنو إلى النجاح... في حين رفضت أكثر من دار نشر مخطوطته. تماماً كما حدث ذات يوم لرواية أمبرتو ايكو “اسم الوردة” التي رفضتها دار “سوي” لتقتنصها “غراسيه”. لم يكن يتصوّر رولان بلوندين، مدير النشر في “كالمان ليفي” ــ وهي من دور النشر التي لم تؤمن بموهبة ليتل ــ أنه سيندم على رفضه مخطوط “المتسامحات”. لقد تحفّظ بلوندين على برودة الأسلوب حين يقوم الكاتب بوصف الفظاعات التي ارتكبت على الجبهة الشرقية وفي برلين، برودة تفتقد لأدنى إحساس بالشفقة على الضحايا.
ويضاف إلى هذا النقد “الأخلاقي”، قيام بعض المعنيين بالتشكيك في موهبة هذا الوافد الجديد إلى عالم الأدب. إذ تناقل بعض الأوساط الباريسية أن مخطوط “المتسامحات” الأصلي، كان محشواً بالتعابير الإنكليزية... وأنه خضع إلى إعادة كتابة. لكن مهما يكن من أمر، فقد حقق ليتل تكريساً لم يطالب به، مهما كانت الشكوك بموهبته قويّة أو واهية. إنّه اليوم كاتب أميركي طارئ على الأدب، فاز بجائزة غونكور. والأرجح أن الأمر، في فرنسا، لن يمر مرور الكرام.