خليل صويلح
اعتاد زكريا تامر في السنوات الأخيرة أن يزور دمشق في إجازة طويلة، يستعيد خلالها ذكرياته في حاراتها القديمة أو ما بقي منها. حي البحصة الذي شهد ولادته (1931)، لم يعد موجوداً... تحوّل إلى كتل اسمنتية شاهقة. لكنه يذكر جيداً منزل طفولته، ومعمل الحدادة الذي خرج منه في منتصف الخمسينيات ليصير كاتباً. أكسفورد التي يقطنها اليوم، لم تمنحه شخصية واحدة للكتابة عنها، كما يقول. فصاحب “دمشق الحرائق” ما زال مشدوداً إلى مكانه الأول كأنه “لم يتخلّ عن مهنته الأصلية، بل بقي حداداً وشرساً، لكن في وطن من الفخار”.
اكتسب زكريا تامر في أكسفورد عادات جديدة في الكتابة: أن يستقلّ قطاراً ويكتب خلال الرحلة قصة كاملة. لكن قصصه الجديدة تنحو إلى التكثيف الشديد. بعض القصص لا يتجاوز صفحة واحدة. وهي كما يصفها قطعة في موشور، لكنها تختزل عالماً كاملاً. يقول موضحاً “أحياناً تهيمن عليّ ثيمة، أروح أقلّبها من جهات عدة إلى أن تكتمل. فأذهب إلى ثيمة أخرى”. ويضيف “لديّ نحو 80 قصة، قد أجمعها قريباً في كتاب تحت عنوان “أخبار بلدنا”.
نماذج زكريا تامر الجديدة تعيش لحظتها الراهنة بكل خشونتها وبؤسها الإنسانيين. ولا تتورع عن دخول المناطق المحرّمة، ما دام شارع اليوم لم يعد يخشى الفضائح.
ويعتمد صاحب “تكسير ركب” أسلوباً في الكتابة، استمدّه من الموروث العربي القديم، هو اسلوب “الإخبار”: أن تروي حدثاً صغيراً وتمضي، بما يشبه تسجيل اليوميات. على أي حال، لطالما حلم أن يكون حكواتياً. ولهذا السبب أدار ظهره باكراً لكل ما هو “موضة” في الكتابة واكتشف أسلوبه الخاص. بعض النقاد يطلق على قصته “الواقعية التعبيرية” وآخرون عدّوه “شاعر القصة القصيرة”. لكنه لم يلتفت إلى ما يكتب عنه، ويعلّق: “أنا مثل بورخيس، لا أقرأ ما يكتبه النقاد عني”. ويشرح موقعه في المشهد بقوله: “لم أكن يوماً في خندق أحد. كان النقاد الماركسيون يشتمونني وكانت السلطة غاضبة مني، ولم أشعر بالأذى” قبل أن يضيف “ما كان يؤذيني حقاً هو وجع الناس وكيفية التعبير عنه بعمق وصدق”.
يقول مبتهجاً: “منذ أيام كنت أبحث عن بيت للأجرة في دمشق، لكن صاحب المنزل طلب مبلغاً خيالياً، فانسحبت مندحراً. وفي صباح اليوم التالي، رنّ الهاتف، وإذا بصاحب البيت يعتذر عما جرى أمس، بعد اكتشافه أن زكريا تامر هو نفسه الكاتب الذي يحتفظ بأرشيف كتاباته القديمة. وها هو يعرض المنزل علي بالمبلغ الذي أوافق عليه”. ويضيف: “هذه المكالمة بالنسبة لي، تعادل كل ما كتبه النقاد عن أدبي”. يرفض زكريا تامر مقولة “زمن الرواية” ويقول محتدّاً: “هذا زمن القصة القصيرة. إيقاع العصر ينهض على الحكاية المختزلة. كما أن القصة القصيرة تتيح لي الكتابة عن مئة شخصية. فيما تفتقد الرواية هذا الحجم من الشخصيات. ما يقال بمئة كلمة، لا يقال بألف كلمة، سوف يتحول إلى ثرثرة وثلاثة أرباع الرواية العربي اليوم، تقوم على فن الثرثرة”.
كان صاحب “هجاء القتيل لقاتله” يكتب مقالاً شهرياً بعنوان “خواطر تسرّ الخاطر” واليوم استبدله بعنوان آخر، لعله يختزل هوية هذا الكاتب المتمرد: “ريح في قفص”.