بغداد ــ سعد هادي
في القرن الثالث عشرأحرق المغول مكتبة بغداد ورموا محتوياتها الثمينة في نهر الفرات... ما الذي يخبئه الزمن الأميركي للحركة التشكيلية العراقية التي احتلت موقع الصدارة عربياً طوال عقود؟ من يحمي تركة جواد سليم و «أبنائه» ؟

بعد عام على الاحتلال الأميركي للعراق، رحل شاكر حسن آل سعيد واسماعيل فتاح الترك، اثنان من أهم التشكيليين في البلد المنكوب الذي أعطى الفنّ العربي بعض أغنى تجاربه خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ولعلّ هذا الرحيل أشبه بإعلان انتهاء مرحلة في الثقافة العراقية. كان لهذين الرائدين تأثير عميق في مجالات فنية عدة، من الرسم الى النحت مروراً بالكتابة النظرية والنقد. ومع أن رحيلهما في عام 2004 كان نتيجة صراع طويل مع المرض، فقد جاء محمّلاً بشحنة رمزية قويّة، أشبه بانسحاب احتجاجي على زمن لم يعد زمنهما، ومرحلة بات كل منهما غريباً عنها إلى أبعد الحدود.
نتاج حقبة
أسهم آل سعيد والترك، اللذان ينحدران من سلالة فنية تعود الى أواسط القرن الماضي، في وضع أسس المدرسة العراقية في التشكيل. تلك المدرسة التي بلورها في الاربعينيات والخمسينيات كل من جواد سليم وفائق حسن وآخرون. راهن هذا الاتجاه التشكيلي المعاصر على تطوير العناصر المحلية بمختلف مصادرها، وعلى اعادة صياغة المؤثرات العالمية المعاصرة لتنسجم مع المزاج الشرقي.
كان آل سعيد والترك، الى حد ما، نتاجاً لحقبة تاريخية تركزت على استعادة الهوية الوطنية وعلى توضيح سمات مجتمع “مديني” يضطرب أو يستقرّ تبعاً لتأثيرات خارجية. ويمكن اعتبارهما نتاجاً لازدهار فن الدولة “بمختلف تحولاتها السياسية والاجتماعية” التي أرادت لأسباب ثقافية ودعائية أن تمنح دوراً للفنان وتبرزه مظهراً من مظاهر تحضّرها وتحقيقها للعدالة الاجتماعية. حتى إنّ “نصب الحرية” الذي أنجزه الفنان الراحل جواد سليم في عام 1961، لم يكن ليرى النور لولا إسهام الدولة. هذا اضافة الى معظم النصُب والتماثيل واللوحات الجدارية التي أُنجزت في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم كمشاريع حكومية قبل أن تقتصر على إنجاز تماثيل ولوحات تصوّر صدّام وتخلّد “بطولاته”.
رسامو العراق اليوم ونحاتوه، يجدون أنفسهم أمام معضلة حقيقية. وإلى جانب افتقارهم الى الوجود الرمزي والواقعي لفنانين مثل آل سعيد والترك اللذين كانا لعقود مركزي استقطاب في تطوير الاتجاهات والاساليب الفنية في العراق، هم كالأيتام على مائدة صراع كبيرة: لا ينتبه الى وجودهم أحد... ولم تعد الدولة قادرة على توفير ابسط حقوقهم. وحين نتجاوز الواجهة السياسية التي ترفع شعار “دمقرطة” المجتمع، نجد أن القوى السلفية هي من يتحكم فعلياً بالعملية السياسية، ومن يحاول اعادة صياغة الافكار والأحلام والرؤى الاجتماعية على ارض الواقع. وهذه القوى تنظر بعين الريبة الى ما يفعله هؤلاء الفنانون الذين قد يأتي يوم يضطرون فيه الى ممارسة إبداعهم في الخفاء.
بعد عقود من التنوير الثقافي، بدأنا نسمع نقاشات حول مدى تطابق التصوير والنحت مع الشرع. كما وضع بعضهم إنجازات الفن العراقي على المشرحة، لدراسة تلك النتاجات، والحكم على هويتها الحقيقية: هل هي تراث ثقافي، أم مجرّد دليل على علمانية الدولة السابقة، او إلحادها بين قوسين؟. تكفي الاشارة في هذا السياق، إلى إغلاق فرع النحت في معهد الفنون الجميلة في البصرة، لأسباب عقائدية، فيما حذّر مدير المتحف السابق قبل هجرته الى دمشق من مخطط منظّم لتدمير الآثار التي تسبق الإسلام ومحو المواقع الأثرية القديمة. ويمضي أعداء الفنّ الجدد في اجتهاداتهم النظريّة: إن إزالة كل نتاج العقود الماضية تبدو اليوم “ضرورة وطنيّة (!)، إذا شئنا أن نمحو أي أثر للنظام الديكتاتوري السابق”، وكل إبداعات المرحلة السابقة هي بالضرورة شواهد ثقافية على زمان صدّام. هكذا أزيل مثلاً نصب “المسيرة” للنحات خالد الرحال، ونُسف تمثال “ابو جعفر المنصور” للنحات نفسه. كما تتكاثر الدعوات الى إزالة نصب “الشهيد” الذي انجزه اسماعيل الترك في ثمانينيات القرن الماضي...
انحسار مستمرّ
من جهة أخرى، فرض الاضطراب الأمني نفسه بقوة على حركة تسويق الأعمال الفنية وعرضها، فاضطرت معظم القاعات الفنية الى إغلاق ابوابها. اختفى الرواد تدريجاً، ولم يعد هناك أجانب يتجولون بحرية بين القاعات ينتقون ما يناسبهم. وبينما كان الموسم الفني يشهد عشرات المعارض الجماعية والشخصية لفنانين من مختلف الاجيال والاتجاهات والاساليب الفنية، لم يعد يقام في بغداد سوى معرض واحد كل بضعة أشهر. وهكذا، لا يجد معظم النحاتين والرسامين امامهم الا الهجرة والفرار من جحيم يزداد اشتعالاً وضراوة. إذ إنّ بقاءهم ــ خصوصاً بالنسبة الى المتفرغين منهم للعمل الفني ــ يعني انضمامهم الى قافلة طويلة من العاطلين من العمل. إنهم يخافون من مستقبل مجهول قد لا يكون لهم دور في صياغته او معرفة موقعهم فيه. بل إنّ ماضيهم سُلب منهم أيضاً، إذ نُهبت محتويات متحف الآثار، كما دُمّرت أو سرقت معظم معروضات المتحف الوطني للفن الحديث بطبقاته الأربع... وأحرق الأرشيف الذي استغرق جمع وثائقه المكتوبة والمرئية سنوات لا تحصى، وهي وثائق لا يمكن تعويضها.
هذه هي بعض ملامح الصورة القاتمة لواقع الفن التشكيلي في العراق. التشاؤم قد يكون مبالغاً فيه؟ هذا ما نتمنّاه على الأقل... لكن الواقع يدعو فعلاً الى القلق.
لا أحد يستطيع اليوم أن يحدد مساراً مستقبلياً للحركة التشكيلية العراقية في ظل الفوضى الراهنة... وهي فوضى تشبه المرور في شارع ضيق، يفضي الى شارع اضيق، فشارع اكثر ضيقاً. وسيؤول الأمر قريباً الى بلوغ الفراغ اللامتناهي، حيث لا ضرورة للرسم والنحت، بل لا ضرورة لمباهج كثيرة في الحياة. التحدّي مطروح اليوم على الفنّانين العراقيين جميعاً، وعلى المثقفين العرب من دون استثناء... من يحدّ من زحف هولاكو؟ من يحمي البقية الباقية من تلك القوّة الإبداعية الحيّة التي صنعت العصر الذهبي للفنون العربيّة الحديثة؟