يوسف الشايب
في رام الله صدرت موسوعة ترصد تاريخ المقاومة النسائية في فلسطين ورموزها،
بدءاً من تنظيم «رفيقات القسام» وصولاً إلى «زهرة الأقحوان» التي كان عرّابها... المهاتما غاندي


تحفّظت ميمنة ابنة الشهيد الشيخ عز الدين القسام عن الخوض في تفاصيل نضالها السياسي أو العسكري. لكن بعد مواجهتها بشهادة خزنة الخطيب (فلسطينية تعيش في دمشق)، أقرّت بأنّ والدها درّبها فعلاً على استخدام السلاح. هذه الشهادة وغيرها من الشهادات التي ترتبط بنضال الفلسطينية في ثلاثينيات القرن المنصرم وأربعينياته، وثّقتها الباحثة فيحاء عبد الهادي في موسوعتين بعنوان “أدوار المرأة الفلسطينية” صدرتا حديثاً عن مركز “المرأة الفلسطينية للأبحاث والتوثيق” في رام الله.
المهمة لم تكن سهلة أمام عبد الهادي وزميلاتها الباحثات الميدانيات اللواتي بلغ عددهن العشرين. فالكتاب ثمرة سنوات من العمل المضني والمتواصل لتجميع الشهادات الحية والروايات، وخصوصاً أنّ النساء اللواتي يدور حولهنّ البحث ينتمين الى جيل شتّتته النكبة، بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وداخل الخط الأخضر، إضافة الى انتقال كثيرات الى الأردن وسوريا ولبنان ومصر وغيرها من الـــــــــدول العربية.
رصدت الموسوعة الأولى نشاط المرأة الفلسطينية في الثلاثينيات، بدءاً بانتفاضة 1932 لتتوغل في حقيقة وجود تنظيم نسائي سمّي بـ“رفيقات القسام”، ووصولاً الى الأدوار النسوية المختلفة في ثورة 1936، وأثر فشل الثورة على المرأة الفلسطينية.
خصصت عبد الهادي في موسوعتها هذه فصلاً كاملاً بعنوان “نساء في الذاكرة الشعبية” تناول نضالات فلسطينيات بينهن ميمنة عز الدين القسام. لكن الباحثة الفلسطينية خلصت الى أنه لا وجود لتنظيم نسائي يُدعى “رفيقات القسام” بل أُطلق في الغالب على نساء رافقن الشيخ القسام، من دون أن يتضح إسهامهن الحقيقي في المقاومة. تحدّث بعضهم عن أدوار عسكرية اضطلعت بها أولئك النساء، فيما تطرقت شهادات أخرى الى أدوار سياسية. إلا أنّ غالبية الروايات والشهادات أكدت أن دور المرأة الفلسطينية في ثورة عام 1936 اقتصر على تزويد “المجاهدين” بالطعام والشراب والمونة. أضف الى ذلك، اضطلاع الفلسطينية بدور مهم في نقل أخبار تحركات الجيش البريطاني الى المجاهدين. في الواقع، كانت نساء المدينة تنقل الأخبار إلى نساء الريف، فشكّلن نوعاً من “أجهزة إنذار متنقلة” لحماية الثوار من خلال مراقبة الطرق والتمويه، حتى بلغ الأمر ببعضهن الى الاشتباك بالأيدي مع الانكليز لتخليص “شباب المقاومة”.
إلا أن هذا الدور “الثانوي” للفلسطينية تغيّر في أربعينيات القرن المنصرم، وتحديداً بعد النكبة. إذ جاء في الموسوعة الثانية المخصصة لدور الفلسطينية في الأربعينيات أنّ نضالها السياسي والعسكري تعاظم بين عامي 1939 و1947. هكذا، تناولت الموسوعة الثانية مشاركة المرأة في الصدامات التي نشبت بين العرب واليهود بعد قرار التقسيم، وبخاصة في التظاهرات، في وقت استمرت فيه المرأة القروية بالعمل حلقة وصل بين الثوار.
برزت في تلك الحقبة جمعيات واتحادات نسوية، فيما شارك بعض القيادات النسوية في عصبة التحرر الوطني، كسميحة خليل، ويسرى البربري. وظهرت في تلك الفترة، ضمن إطار العمل السياسي الاجتماعي العسكري للفلسطينيات، المنظمة النسائية السرية “زهرة الأقحوان”. لم تكن هذه المنظمة مجهولة الهوية، ولم تتمحور حولها الشكوك كما كانت الحال مع “رفيقات القسام”. كانت عضوات الجمعية من النساء المدينيات، ممن عملن في الجمعيات والمؤسسات النسوية.
بدأ نشاط “زهرة الأقحوان” خيرياً، أقرب إلى النادي الاجتماعي، ثم تطور إلى عمل عسكري منظم. ولدى استجوابها، قالت مهيبة خورشيد، مؤسِّسة الجمعية، إنها كانت تعنى أولاً بالوحدة بين الأديان، ومساعدة الطلبة الفقراء، قبل أن تتحول إلى العمل العسكري. ووقع هذا التحوّل الجذري في نشاط الجمعية عقب مقتل طفل فلسطيني على يد جندي في الجيش البريطاني. وأشارت مهيبة خورشيد إلى أن “مجاهدين من سيناء، وعدد من الألمان، شاركوا في العمل العسكري لزهرة الأقحوان”.
اللافت أن شعار الجمعية نُفذ في الهند، بتعليمات من المهاتما غاندي، وهو من تصميم خورشيد التي اختارت اسم “زهرة الأقحوان” مستوحية إياه من الزهرة القرمزية في الثورة الفرنسية. هذا علاوة على دلالاته المحلية، إذ تنتشر الزهرة بكثافة في ربوع فلسطين. كان نشاط “زهرة الأقحوان” كثيفاً في يافا، وبخاصة خلال الاشتباكات اليومية بين سكان يافا العرب وسكان تل أبيب اليهود، سواء عبر المقاومة المسلحة أو بجمع التبرعات ونقل الأسلحة للثوار.
وترى الباحثة فيحاء عبد الهادي أن أهمية موسوعتي “أدوار المرأة الفلسطينية” في ثلاثينيات القرن وأربعينياته، تكمن في سدّ الثغرة الواضحة في الكتب التاريخية. إذ خلت هذه الأخيرة من تفاصيل وافية عن دور الفلسطينيات السياسي والعسكري في تلك الفترة. وتقول عبد الهادي: “الحديث عن النضال النسوي الفلسطيني في كتب التاريخ هامشي، ولا يرقى إلى مستوى نضالات الفلسطينيات على الأرض ولا يوثّق كل شيء. لذا، كانت الفكرة بملء هذا النقص من خلال توثيق الذاكرة الفلسطينية عبر النساء. من المعروف أن النساء يحبّذن الحديث عن تجاربهن أكثر من كتابتها على عكس الرجال، لكنهن يحتجن إلى من يسمعهن، وبالتالي كان لا بد من توثيق روايات النساء أنفسهن لا روايات أزواجهن أو أشقائهن أو أبنائهن عنهن. مع أن الموسوعتين لم تغفلا الشهادات الذكورية، التي خُصص لها ما يقارب 10 في المئة من مجموع ما ورد من شهادات في الموسوعتين”.