بيار أبي صعب
منى برنس هي الإنسان الوحيد الذي يمكن أن يخطر بباله “كأس عرق” في الـ“تورينو”. تجلس الشاعرة المصريّة الى البار، في تلك الحانة الشبابية الضيقة أول شارع الجميزة في بيروت، تمسك جيداً بالكأس الكبيرة التي امتلأت بسائل أبيض كالطمأنينة، كأنها تخاف على الكأس أن تفلت منها. تتكلّم فيعلو صوتها فوق صخب المكان. ترشقنا بالكلمات على إيقاع موسيقى الـ garage والـ R&B التي كانت على برنامج السهرة تلك الليلة.
“أمركم غريب أنتم اللبنانيين... كم أنتم قادرون على المحو، تكتبون ثم تمحون، ثم تكتبون فوق الممحو. يا لكم من شعب سريع النسيان”. الأديبة الشابة التائهة في دهاليز المدينة، دخلت بيروت في عز الحصار، ضمن مهمة محددة مع مؤسسة دولية. ثم انتهى العدوان الإسرائيلي وبقيت هي. أو بالأحرى تحاول أن تجد وسيلة للبقاء، ونحاول إقناعها بالعودة إلى مصر. هكذا راحت تكتشف هذا البلد الغريب. “غادرتُ بيروت مطلع أيلول (سبتمبر) وكانت آثار الصدمة واضحة على الناس. وعدت قبل أن ينتهي الشهر، فإذا بالجميع نسوا كلّ شيء. كأن شيئاً لم يكن، حرب فظيعة نخالها لم تحدث!”.
في غاليري SD التي ليست ببعيدة عن بار “تورينو إكسبرس”، قالت منى كلاماً مشابهاً خلال أحد النشاطات الموازية لمعرض “نفس بيروت”. قرأت نصوصاً كتبتها في بيروت، عن بيروت، في هذا المركز الفنّي المتخصص بالفنون المعاصرة. ثم ركبت الطائرة إلى القاهرة على أمل عودة قريبة. في تلك الأثناء، نحن هنا، نواصل نسياننا اللذيذ. نستغرق في “غياب” يبدو شرطاً أساسياً لمواصلة الوجود. النسيان آخر وسيلة ممكنة لإعلان نهاية الحرب. هذا “الخلل” ــ أو صمام الأمان ــ في الوعي الجماعي، ينتظر مَن يتسرّب بين شروخه. إنّها مهمّة فناني الجيل الجديد، في شتّى المجالات الإبداعيّة، قبل سواهم.
“الحرب المنتهية، الحرب اللامتناهية” ستكون أيضاً محور يوم دراسي تعقده “الجمعية اللبنانية للمحللين النفسيين” يوم 25 الجاري. تدور الورشة التي يستضيفها قصر الأونيسكو في بيروت، حول أشغال عدد من الباحثين والمحللين والاختصاصيين، بينهم شوقي عازوري ودافيد صهيون ومنى شرباتي ومود موريسيت صيقلي. ومن المواضيع المطروقة الحرب والمقدّس، الاستشهاد، الحقد من أجل الوجود، جذور العنف، دعوا الأطفال يلعبون، الحداد المتعدد، والعلاقة بالأشياء أو الحياة في الموت.
هل حان الوقت كي ينكبّ التحليل النفسي على دراسة النتاج الفنّي ــ الثقافي الذي ظهر في لبنان منذ تسعينيات القرن الماضي ــ بين تذكّر ونسيان ــ ويمكن اختصاره بمشروع “أركيولوجيا الحرب”؟