strong>حسين بن حمزة في روايتها الجديدة «جاهلية» (دار الآداب)، تواصل ليلى الجهني كشف المستور، لكنّها تخوض رهاناً مغايراً لا يرتكز على وصفة (جنسية) جاهزة. كتابتها غوص في تركيبة المجتمع السعودي، وتأمل في الآليات التي تحكمه

ليلى الجهني كاتبة سعودية. “جاهلية” (دار الآداب ــ بيروت) روايتها الثانية بعد “الفردوس اليباب” (1998) كما هو مكتوب على الغلاف. لكن مهلاً، لماذا لا نجد فيها ابتذالاً جنسياً؟ لماذا لا تجري أحداثها بسرعة؟ لماذا ليست لغتها خفيفة وسطحية؟ هذه، على الأرجح، بعض الأسئلة التي يمكن أن تخطر في بال أي قارئ يقبل على قراءة الرواية، على أساس أنها “البضاعة” عينها التي ذاع صيتها هذه الأيام، إلى حد أن مجرّد كون الرواية سعودية بات مبرراً لرواجها وإقبال القراء الكثيف عليها، بل لسعي الكثير من دور النشر إلى تبنيها وإصدارها.
هل سألنا أنفسنا عن الأسباب الحقيقية التي تسهم في رواج الرواية السعودية اليوم؟ معظم من كتبوا أو تحدثوا عن تلك الإصدارات، أشاروا إلى أنها تكشف المستور... وتمنح القارئ فرصة للتلصص على تفاصيل حياة المجتمع السعودي المغلق وشبه المجهول بالنسبة إليه.
حسناً، لكن هل هذه أسباب أدبية وإبداعية، أم أسباب اجتماعية وسياسية؟ وهل تكفي النية الاجتماعية وحدها لكتابة عمل روائي جيد؟ حتى لو افترضنا أن ما يُكتب في هذه الروايات يحدث فعلاً في المجتمع السعودي، فهل هذا كافٍ لوضعه في كتاب والتعامل معه بكونه رواية؟ الواقع أن أسباباً كهذه تتعلق بأهداف اجتماعية وواقعية وايديولوجية تشكل غالباً عبئاً على الكتابة، لكنها في بلد كالسعودية يشهد “طفرة” روائية، تصبح من مستلزمات الرواية، بل يمكن أن تحتل هذه الأسباب مساحة الرواية كلها.
تثير رواية “جاهلية” كل هذه التساؤلات لأنها مكتوبة وفق منطق روائي آخر. ليلى الجهني تستهدف رواجاً مختلفاً غير ذلك السائد في سوق الرواية السعودية، حيث يزداد الطلب على الروايات كلما أكثر مؤلفوها من استخدام المشاهد الجنسية واللغة السطحية والإثارة الاجتماعية المبتذلة.
قد يبدو رهان ليلى الجهني صعباً، فقد كان بإمكانها أن تدخل المشهد الروائي بسهولة، وتحتل مكاناً فيه من دون تعب. لكنها فضَّلت أن تبدأ من مكان آخر بدلاً من استثمار النجاحات الزائفة ــ أو على الأقل الفضفاضة ــ التي تحققت لبعض الروايات السعودية.
نعود إلى الرواية نفسها. تروي قصة لين التي تتلقى من والدها المنفتح تربية مختلفة عما هو سائد في المجتمع، وترتبط بعلاقة حب مع مالك الذي نكتشف شيئاً فشيئاً أنه “تكروري” وهي إحدى التسميات الشائعة التي تُطلق على من لم يحصلوا على المواطنة السعودية. هاشم أخوها الذي أفسد المجتمع وتربية الأم شخصيته، يعرف بالأمر فيقرر التخلص من مالك.
تبدأ الرواية من هذه النقطة، هاشم العائد إلى المنزل بعد ضربه القاسي لمالك الراقد في غيبوبة داخل مستشفى. أي إنها تبدأ من النهاية المفترضة للأحداث. تستخدم ليلى الجهني تقنية الـ“فلاش باك” لتستعيد تفاصيل الأحداث ومواقف الشخصيات. سنعرف لاحقاً أن الـ“فلاش باك” جزء من الممارسة الروائية، فقد اختارت الجهني أن تحدد زمن الرواية أو حاضنها السياسي والحياتي، فوضعت في بداية كل فصل خبراً عن الحرب الوشيكة التي ستقع، فعلاً، على العراق. كما أن أحداث الرواية لا تسردها المؤلفة أو أحد أبطالها، بل يتناوب كل واحد منهم على سرد الرواية أو مساهمته داخل ما يجري فيها.
يمكن أن توصف “جاهلية” بأنها رواية أصوات مثلما كانت الحال في “الفردوس اليباب” رواية الجهني السابقة. فهي تقوم بتوزيع الحدث على الشخصيات حسب مشاركتها وحجم تورطها السردي في الرواية، بهدف تسجيل وجهات نظر مختلفة بما يمنح الرواية ثراءً في السرد وتنوعاً في الأسلوب. يأتي غالباً صوت كل شخصية على شكل مونولوغ داخلي يتداخل مع المونولوغات الأخرى، وهو ما يؤمن للرواية نبرة خافتة تنجح في جذب القارئ إلى عوالمها. الأب يحدث نفسه عما إذا كان قد أخطأ في تربية ابنته التي تميزت بشخصية قوية وقادرة على الاختيار. بينما يكشف الأخ عن أفكاره المتخلفة والجاهزة، التي يتقاسمها مع السواد الأعظم من المجتمع، عن المرأة والحب والعلاقات العاطفية والتراتبية الاجتماعية التي تعامل أمثال حبيب أخته معاملةً دونيةً وعنصريةً. أما مالك فيعيش تناقضاً بين حبه وحقيقته الاجتماعية، مؤجّلاً مصارحة لين بأنه ليس مواطناً ريثما يحصل على “صك الغفران”. ولدينا لين الضائعة بين قناعاتها الذاتية وما يفرضه المجتمع والأهل من شروط على الذات. إن حضور مالك بكونه شخصاً أسود البشرة وغير حاصل على نعيم المواطنة، يقوم بأكثر من وظيفة، سواء على صعيد السرد الروائي أو على صعيد الواقع وثقافته السائدة. هو يحرّض الشخصيات على كشف مكنوناتها ودواخلها الحقيقية، فالبطلة تقطع علاقتها بمالك حين يصارحها بأنه “تكروري” فيما الأب يسأل نفسه، وهو المنفتح، عما إذا كان رفضه لمالك كزوج لابنته يتعلق بلونه فقط. أما الأخ فيقرر التخلص من مالك لمجرد تخيّله أن شخصاً دونهم مرتبةً على علاقة بأخته وقد يتزوجها.
على هذا المحك الاجتماعي، تتحرك رواية “جاهلية”، وفي هذا العمق تعيش شخصياتها. إنها، كغيرها من الروايات السعودية الرائجة، تكشف المستور وتعرِّف القارئ غير السعودي بعالم شبه مجهول. لكنها لا تفعل ذلك باتباع وصفة توابل روائية جاهزة للحصول على شهرة ملفقة أو مبالغ فيها.
رواية “جاهلية” قد تعجبنا أو لا تعجبنا. لكنها تنتمي إلى جهود وممارسات روائية سعودية تسعى إلى كتابة تأملية، ومتروية في تناول الإشكاليات الكثيرة والمعقدة في المجتمع السعودي. بهذا المعنى، فإن ليلى الجهني تكتب نصاً يُقرأ كرواية، ويحاكم كرواية، تســـتوفي شروطاً سردية وأسلوبية عدة.