عندما نشر محمد عابد الجابري (1936) في عام 1975 سلسلة من المقالات النقدية ضد “تاريخانية” عبد الله العروي في صحيفة “المحرر” المغربية، تنبّأ عديدون بمستقبل كبير لهذا القلم الفكري المشاغب. لم يكن الجابري المناضل آنذاك في صفوف حزب “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” قد أصدر إلا كتاباً واحداً، هو أطروحته الجامعية حول “العصبية والدولة في فلسفة ابن خلدون” (1971). لكن مساهماته في ندوات كلية الآداب في الرباط في حقبة السبعينيات، ومقارباته الجريئة لإشكالات الفلسفة الإسلامية انطلاقاً من أسئلة الحاضر جعلت الجميع يتوقع من هذا الشاب أن يبلور مشروعاً جديداً في مجال الفكر الإسلامي. وهذا ما سيتحقق لاحقاً من خلال كتابه الأشهر “نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي” (1980).
جاءت مقدمة الكتاب أشبه ببيان حول منهج جديد في مقاربة التراث الإسلامي. وبينما كان مفكرو المغرب والمشرق يناقشون كتابه، اختفى الجابري من جديد. إذ إن وجهة فكرية أخرى ستقترح نفسها عليه. هكذا، انشغل خلال عقد كامل في تأسيس مشروعه الفكري الضخم في “نقد العقل العربي” حيث صدر جزؤه الأول في عام 1984 والثاني في عام 1986 والثالث في عام 1996.
كتبٌ أخرى سيتوالى صدورها لهذا الباحث الغزير الإنتاج من “الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية”، الى “التراث والحداثة: دراسات ومناقشات، و“مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب”. هذا إضافة إلى العديد من الإصدارات الأخرى التي تناول فيها هذا المثقف الأمازيغي ذو التوجه العروبي أسئلة التعليم والدين والديموقراطية والتنمية في المغرب وفي العالم العربي.
ولأن الجابري يعدّ أحد المتخصصين العرب في ابن رشد، فقد أثمر اهتمامه بفيلسوف مراكش جملةً من الأعمال الهامة. إذ أعاد بالتعاون مع مركز “دراسات الوحدة العربية”، تحقيق ونشر بعض أعمال ابن رشد مثل “تهافت التهافت” و“كتاب فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”. كما صدر له كتاب حول سيرة ابن رشد وفكره في نهاية عام 1998.
ظل الجابري أستاذاً للفلسفة والفكر الإسلامي في كلية الآداب (جامعة محمد الخامس في الرباط) منذ عام 1967 إلى أن أحيل على التقاعد عام 1995. وكان قبلها قد قدم استقالته من المكتب المركزي للاتحاد الاشتراكي ليتفرغ للبحث والتأليف.
ولأنّ الفلاسفة يعتزلون السياسة والوظيفة، لكنهم أبداً لا يتقاعدون، فقد واصل نشاطه الفكري والفلسفي من خلال مجلته “فكر ونقد” التي فتحها في وجه الأقلام الفكرية والفلسفية الجديدة، ومن خلال مجلته الشهرية “مواقف” التي يواظب على إصدارها مطلع كل شهر. وهي السلسلة التي بلغت عددها الـ57 وتعدّ من أنجح المجلات الفكرية التي تعرضها الأكشاك المغربية في السنوات الأخيرة.