strong>رلى راشد
تدور أحداث «ترنيمة الإرساليّة» روايـة جون لوكاريه الجديدة، في إفريقيا. وتفضح الفساد والفوضى في الكونغو التي تنهب موارده شركات تعدين تؤازرها سلطات رواندا. هل بات الجاسوس الآتي من الحرب الباردة، كاتباً سياسياً؟ هذا ما تشير إليه أعماله الأخيرة، ومواقفه المعلنة منذ حرب العراق، وصولاً إلى العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان

كيم فيلبي. اسم قد يبدو مألوفاً. لم يخرج الرجل من أحد أفلام جيمس بوند بل كان حقاً عميلاً بريطانياً مُزدوجاً خلال فترة الحرب الباردة. ونشط في وقت من الأوقات في بيروت، متّخذاً هوية مراسل مجلة “إيكونوميست” البريطانية لمنطقة الشرق الأوسط. لكن قلّة منا تدرك أن فيلبي هو الذي أبلغ السوفيات عن هويّة الكاتب جون لوكاريه الحقيقية، كاشفاً أنّه عميل سري في جهاز الاستخبارات البريطاني، ما قضى على مستقبل لوكاريه في عالم الاستخبارات. إلا أنّ القرّاء ربحوا كاتباً صار أحد أبرز روائيي التجسّس، ونقل العديد من رواياته الى السينما والتلفزيون.
هكذا، تفرّغ جون لوكاريه، أو دايفيد جون مور كرونويل للكتابة. دخل عالمها من خروم مكائد عرفها عن كثب خلال نشاطه عميلاً سرياً. واليوم، لا يزال معلّم الرواية الجاسوسية، قادراً على مفاجأة قرّائه، وهو في الخامسة والسبعين، بجديد قد يخدع أوفاهم لأدبه، فيخال أنّه يكتشف كاتباً جديداً.
بعدما استنفد موضوع الحرب الباردة في رواياته، ثم قارب السيرة الذاتية في “الجاسوس المثالي” (1986)، وصل في “البستاني المخلص” (2001) الى تقديم نظرة إشكاليّة للنظام الرأسمالي من خلال رصد جشع الشركات المتعددة الجنسيّة. وفي السنوات الأخيرة، استحال لوكاريه كاتباً “سياسياً” بمعنى ما. يضع يده على مناطق موجعة وقضايا حساسة، ويخوض في واقع متفجّر على خلفيّة سياسية شائكة. وها هو، في أحدث رواياته “ترنيمة الإرسالية” The Mission Song الصادرة أخيراً عن دار “هودر آند ستوفتن” في لندن، يتناول حالة التآكل السياسي الناجم من نفاق السلطة.
تفضح الرواية الفساد والفوضى في الكونغو التي تنهب موارده شركات تعدين تؤازرها سلطات رواندا. في هذه البقعة الجغرافية يهيم برونو سالفادور، أو سالفو في مؤامرات جاسوسيّة يتقنها لوكاريه أيما إتقان. تبدو الرواية تنويعاً على رواياته الأخرى وعلى شخصيات لوكاريه المحوريّة. سالفو ابن المبشّر الإيرلندي الكاثوليكي والقرويّة الكونغولية دخيل على الحياة، مثل معظم شخصياته. وحين يختار الكاتب لبطله أن يكون مترجماً، ليس في الأمر أية مجانية أو اعتباطية طبعاً. إنّه ينطق بأكثر من لسان، وهذه المهنة المشرّعة على الهويّات تُشبع حاجته الملحّة الى الانتماء. ولا مجانيّة أيضاً في تداعي زواجه بصحافية إنكليزية أو في وقوعه في غرام هانا، الممرّضة الكونغولية التي تنعش ذكرياته عن وطن غادره الى مدينة الضباب.
يستسلم لوكاريه ــ بجرأة ملحوظة ــ لكتابة قائمة على السرد المطوّل، يعشّش في ذهن مترجمه، ويتمعّن من وراء هذا القناع بفوارق اللغة الدقيقة التي يتلصّص إليها في سياق اكتشافه ملامح القارة السمراء. الرواية ساخطة في تتبّعها استغلال إفريقيا اقتصاديّاً، ورؤيويّة في وصفها للميليشيات المُتعطّشة للدم، وشغوفة أيضاً في رصدها للازدواجيّة الغربيّة.
ولعل الازدواجية من العناصر الأساسية في بناء لوكاريه الروائي. كأنّها تجسيد لقوى خفيّة تتنازعه، بدءاً ببريطانيا وبوالده ريتشارد كرونويل الرجل الوسيم المترف الذي يفتقر الى المبادىء. استعاد لوكاريه والده الذي أخضعه لتربية قاسية وأغرق نفسه في مستنقع الديون والسجن. استعار من شخصية والده عناصر عدّة شكلت ملامح ماغنوس بايم الشخصية الرئيسة في “الجاسوس المثالي”. هكذا، جاءت تصفية الحساب مع الماضي ومع الذاكرة، فكانت الرواية أشبه بعلاج ينصح به اختصاصي علم نفس على حد تعبير الروائي.
والمجتمع البريطاني شكّل هاجساً أساسياً لدى لوكاريه، فقد انتقد طبقيّته ورفض في نهاية الثمانينيات عرض رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر بترقيته الى رتبة فارس. نفّرته فكرة أن ينضوي إلى ما يُشبه “أكاديمية خفيّة تتحكّم ببريطانيا”...
لا شك في أن أفكار لوكاريه ومواقفه تطوّرت مع مرور السنوات والحروب في العالم الثالث. الرجل الذي انخرط في الـ 33، في جهازي الاستخبارات ومكافحة التجسّس في بلاده، إلى أن أتى فيلبي و“حرّره” من هذا الموقع، يملك اليوم نظرة نقدية الى حكومته والحكومات الغربيّة المسؤولة عن البؤس المتحكّم في هذا المقلب من العالم.
كان لوكاريه لا يزال عميلاً حين دغدغته غواية الأدب، فكتب أولى محاولاته الروائية، ووقّعها باسم لوكاريه المُستعار الذي أراده تغريبيّاً. وعلى الرغم من دفاعه عن التجسّس ضرورةً براغماتيّةً وفلسفيّةً إبّان الحرب الباردة، أعرب عن تفهّمه المشاعر المُتضاربة التي دفعت بكيم فيلبي الى التحوّل الى المعسكر الاشتراكي. هكذا، ألبسه شخصيّة بيل هايدون في “الجاسوس” (1974)، وصوّر ببراعة ضعف فيلبي من وجهة نظره هو طبعاً، محلّلاً الآليات التي دفعته الى الغدر بالكاتب..
اختزلت روايات لوكاريه تاريخ العالم منذ الحرب العالمية الثانية ورصدت المعنى العميق للأحداث السياسيّة المفصليّة، وواكبت نصوصه الصحافية في السنوات الأخيرة الأحداث الساخنة. هكذا استنكر في نص بعنوان “لبنان” نشرته صحيفتا “لوموند” و“إيل باييس” “الحلقة المُفرغة للعنف”. وتوجّه في اليوم الثامن والعشرين للعدوان الى الاسرائيليين قائلاً: “إن قَتَلتم مئة مدني بريء وإرهابياً واحداً، هل تكونون ربحتم الحرب على الارهاب أم خسرتموها؟ تقتلون مئة شخص بريء فتُنبتون خمسة إرهابيين جدد... أتربح بالتالي أجيالكم المُقبلة أم تخلقون عدوّاً تستحقونه؟”. والنبرة الاحتجاجيّة التي قام عليها النصّ المذكور، أعادت الى الأذهان مقالة من الطينة نفسها، كتبها لوكاريه في عام ٢٠٠٣، ونشرتها جريدة الـ“تايمز” تحت عنوان: “لقد فقدت الولايات المتحدة صوابها”.
تناول الكاتب يومها، بأسلوب ساخر ولاذع، الحرب على العراق. وشنّ حملةً ضاريةً على الرئيس الأميركي، معتبراً أنّ عهده أسوأ ما شهدته الولايات المتحدة... وأنّه “حتى أسوأ من المكارثية”. انتقد لوكاريه رئيساً استخدم “إحدى أعظم حيل العلاقات العامة في التاريخ” ليحوّل غضب الولايات المتحدة الأميركية من بن لادن الى صدام حسين. ولا يتردّد لوكاريه في اعتبار حديث بوش عن نمط عيش أميركي صالح للتصدير كلاماً وقحاً: “بلغ خداع الرأي العام حدّاً غير مقبول، اعتمدتم مفهوماً، قد يروق لأورويل، مفاده ان أميركا هي الخير والإسلام هو الشرّ”.
نجح جون لوكاريه على امتداد مسيرة تجاوزت أربعين سنة، في الانتقال من موقع الروائي المعتقل في خانة “أدب التجسّس”، الى موقع المثقف الذي صاغ خطاباً نقدياً في مواجهة الأيديولوجيا المهيمنة، وفضح آليات تمويه الحقيقة وإخفائها. والمؤكد أن قلة مثله نجحوا في تحقيق هذا التحوّل، والحفاظ على صدقيّتهم في الوقت نفسه.