القاهرة ــ محمد خير
شعبولا مشغول بانفلونزا الطيور، وسعد الصغير
منهمك في الرقص، وأحمد عدوية قابع في المنزل... والأغنية الشعبية تعيش أزمة وجودية!


لم يبق في القاهرة سوى عدد قليل من الأحياء الشعبية. لكنها تفيض، حسب الأرقام الرسمية، بنحو 84 منطقة عشوائية. وإذا أردنا تطبيق هذا الفارق على الفن، نجده حتماً بين أحمد عدوية من جهة، وسعد الصغير من جهة أخرى.
الخلط بين الشعبي والعشوائي هو السبب في الخلط بين أغاني عدوية وأغاني سعد أو شعبان عبد الرحيم. وعلى رغم الهجوم الضاري الذي تعرّض له عدوية في سبعينيات القرن المنصرم وثمانينياته، سرعان ما غيّر الناس وجهة نظرهم تجاهه، بعدما أفل نجمه واختفى عن الساحة لمصلحة حسن الاسمر وحكيم، وحالياً سعد الصغير وشعبولا.
الحارة الشعبية التقليدية ليست مجرد شارع ضيّق في منطقة فقيرة. إنها وحدة اجتماعية، تضم جميع المهن والفئات، ويمتد تاريخها لمئات السنين. بالتالي، تكون قد أنتجت حكمتها وفلسفتها ونظرتها إلى الحياة، وعبّرت عن كل ذلك باستخدام لغتها الخاصة التي لم تجد طريقها إلى وسائل الإعلام إلا فيما ندر. أما ما كان يطلق عليه “الأغنية الشعبية” قبل أحمد عدوية، فيقسم إلى نوعين: الأول هو أغنية الفلكلور التي أعاد إنتاجها الكبار مثل عبد الرحمن الأبنودي وبليغ حمدي في تجربتهما مع محمد رشدي. والنوع الثاني أغنيات “تتحدث” عن عالم الحارة والطبقات الشعبية، لكن صناعها كانوا غالباً من خارج الحارة، مثل “منديل الحلو” لعبد العزيز محمود، أو “أبو سمرة السكرة” لمحمد قنديل.
حتى عام 1969، لم تكن الحارة الشعبية في القاهرة قد وجدت من يعبّر عنها من دون “تزويق”، أي بواسطة الألفاظ الحقيقية التي تستخدمها في حياتها اليومية. في تلك السنة، خبأت الصدفة لقاء بين أحمد عدوية والشاعر “الريس بيرة” (اسمه الحقيقي خليل محمد) وقدّم الثنائي أغنيات شعبية عبّرت عن الحارة الشعبية وثقافتها. ثم توالت أغنيات عدوية، ومثّلت ألفاظ مثل “كركشندي دبح كبشه” صدمة للنقاد على رغم أن كاتبها هو الشاعر مأمون الشناوي، وكذلك أغنية “بنج بنج” رغم أن ملحنها هو بليغ حمدي، إضافة إلى أغنية “مجنون” التي كتبها صلاح جاهين. وبعيداً من آراء النقاد، كان عدوية أول مطرب عربي يتخطى حاجز المليون نسخة مع ألبوم “بنت السلطان”.
أما من يسمّون اليوم بالمطربين الشعبيين، فقد اعتمدوا أحياناً على “اختراع” ألفاظ لا تنتمي إلى الحارة أو إلى أي منطقة أخرى. فحتى الآن، لا أحد يعرف معنى “الأساتوك” اللي ماشي “يتوك”. وحتى أكثر الحارات تخلفاً لا يمكن أن تسمع فيها تعبيراً مثل “كوز المحبة اتخرم”. أضف إلى ذلك أن أغنيات شعبولا عن انفلونزا الطيور وغيرها من الأحداث الآنيّة، لا يمكن اعتبارها مستمدة من الشارع بقدر ما هي تعبير عن وجهة نظر شعبان نفسه. أما أغنية “يا هنادي” ليسري شريف، فهي تسلك طريقاً مضموناً هي السخرية من التراث. وهو الطريق نفسه الذي بدأ به سعد الصغير في كليب “الكلام على مين” الذي سخر فيه من تظاهرات ثورة 19.
عموماً، يعتمد سعد الصغير على رقصه أكثر مما يعتمد على غنائه. وهو لا يجد غضاضة (مثل شعبولا) في تأدية أكبر عدد من الأغنيات على اللحن نفسه: عاطفياً في المرة الأولى، وتسويقياً مرة أخرى، ومهنئاً لمنتخب كرة القدم في المرة الثالثة. ويضاف إلى ما سبق أغاني “النكت” التي ازدهرت بدءاً من “أحمد حلمي اتجوز عايدة” وصولاً إلى “الديك بيحب الوزة”.
الفارق الأهم بين عدوية وجيل “الشعبيين” الحالي، هو أن عدوية نجح في عصر أم كلثوم وعبد الحليم، فيما نجح شعبولا ورفاقه في عصر انحطاط فني واجتماعي. ثم أصبحوا رموزاً لذلك العصر الذي أحاطت فيه العشوائيات بالقاهرة، إحاطة السوار بالمعصم. والمنطقة العشوائية ليست مكاناً مستقراً كالحارة، لذا لا تملك ثقافة خاصة بها، وهي مكان مؤقت تماماً كالأغنية العشوائية. أغاني سعد الصغير وزملائه مقطوعة الجذور، لا أصل لها في التراث الموسيقي أو الغنائي، وفي الوقت نفسه لا تقدم جديداً. المنطقة العشوائية لا تعرف المستقبل... وهذه هي حال الأغنية العشوائية.