وائل عبد الفتاح
تحتضن بيروت هذا المساء ضيفاً من نوع خاص، إنّه طيف الشاعر الكبير فؤاد حدّاد. بعد أكثر من عقدين على رحيله، يعود أحد معلّمي القصيدة العامية المصريّة، الى وطنه الأصلي، ليغنّي المقاومة، ويضمّد جراح المدينة. أيقونة من زمن آخر، كانت الطوائف فيه عارضة، والدين روحاً وثقافة

فؤاد حداد في بيروت إذاً. كالعادة، فرقته نصفها إن لم يكن أكثرها هواة. عشّاق ومريدون وأصدقاء. لا ينقصها سوى فؤاد ببدلته الأنيقة رغم طول عمرها... وجسده المرهق. وكما فعل على مسرح الجمهورية قبل رحيله بأيام، ومع فرقة من عمال مطابع “روز اليوسف”، ستكون أغنيته أقرب إلى الهتاف: “ازرع كل الأرض مقاومة”. المقاومة كلمة أساسية في قاموس فؤاد حداد الشعري. كانت المقاومة وقتها كلمة غريبة، وسط تيار جارف يهرب من فكرة الحرب. ويخطو سريعاً إلى الأعداء في رحلة تفكيك لكل ما ربطته الثورة الناصرية. الشاعر فؤاد حداد المقيم فى سجون تلك الثورة نفسها سبع سنوات ــ وفي رواية أخرى ثماني سنوات ــ مع رفاق الشيوعية التي تعلّمها لأول مرة فى مدارس البعثات الإرسالية (“الفرير” ثم “الليسيه”)، يقف على المسرح ويغني ضد تفكيك الثورة وضد اجتياح بيروت. ورغم ملامحه الوقورة والصارمة، يكاد يقفز ويرمي بكوفيته الحمراء في الهواء. هو لم يفعل. لكنني عندما شاهدت تسجيل الحفلة بعد سنوات طويلة، تخيّلت أنه فعلها وخرج الى الشارع يرقص، كأنه في احتفال جماعي يدعو إلى التمرد على كل الأفكار التي أصبحت هي القاعدة بعد غيابه عام 1985. ذلك المنطق السائد يغنّي حداد ضده اليوم وفي بيروت: “إن كان ضلمة تمد النور. وإن كان سجن تهد السور”.
كلمات تشبه شعارات الأحزاب الثورية وأيقوناتها. لكنها ليست كذلك. كما ان فؤاد حداد ليس كل ما عُرف عنه حتى الآن. يبدو سهلاً، يمكن اقتناص أفكار وصور وشعارات من أشعاره. لكنه خادع. هو مقيم في مسارب أخرى مثل رموز الصوفية الذين كلما اقتربت منهم وتخيلت أنك امتلكتهم، يهربون بأرواحهم الى مغارات العزلة والسفر البعيد جداً. يعيش بتفسيرات المريدين. كل منهم يصنع له مقاماً في قلبه. يكشف للآخرين عن سرّ من أسراره. لكنه مستقر على أريكته القديمة لا ينتظر شيئاً. ويعتب على مستخدميه في النشرات السياسية بأنهم لا يعرفون قدره.
إنّه أوّل شاعر تحوّلت معه العامية المصرية الى كتابة القصيدة بموديلها الحديث، بعد أن كان بيرم التونسي وصل بموديل الزجل الى أقصى إمكاناته. والمفارقة أن أكبر شاعرين بالعامية المصرية هما: لبناني وتونسي. لكنها واحدة من المفارقات العديدة في مسيرة فؤاد حداد. هو المسيحي الذي كتب أحلى أبيات في مديح القرآن الكريم. والبورجوازي الذى اختار أن يتزوج الفقراء ويصادقهم ويكتب عنهم. والمثقف المغرم بأراغون، والمفتون بالفصحى ويختار لغة الشعب طريقة في اختراع الجسور مع ثقافة شعبية عاشت سنوات في أسر الاستهلاك السريع.
أخيراً، طيف فؤاد حداد في بيروت. زيارات قديمة لبلدة والده اللبناني في قضاء عاليه، واكتشاف الجذور الخفيّة لعائلة من العائلات المركبة المنتشرة في مصر العشرينيات. أدركت عائلته أن التعليم الجيد سلم اجتماعي، هكذا صعد فؤاد حداد حتى أصبح مدرّساً للرياضة المالية في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة في ما بعد). يحصل على البكوية والعضوية رقم واحد فى نقابة التجاريين. رحلة صعود من بورجوازية عادية الى حواف ارستقراطية، حوّلتها الأم بأصولها الشامية الى قواعد صارمة للحياة، وحافظت عليها في دعوات الطعام العائلية. ومن خلال نظرة الى الحياة لم تتغير مع ذبول الأرستقراطية القديمة، ومرور الزمن.
هكذا يمكن تلخيص عائلة فؤاد حداد: بروتستانتي تزوّج كاثوليكية وأنجبا مسلماً. أيقونة عن زمن مختلف، الطوائف فيه عارضة، والدين فيه ثقافة.
لكن ليس هذا مهماً بالمقارنة مع ما حققه الرجل بنفسه. اختار فؤاد من قدَره العناصر التي يريد، ليصنع به حياته الخاصة. قال إنه أخذ العبقرية من والدته التي تتحدث الفرنسية مثل أهلها، وتحفظ الأمثال الشعبية في خليط نادر انتقل الى الإبن الذي عشق اللغة العربية، والتقط فنون الشعر التلقائي من الزجل الى العتابا والميجانا ومونولوجات الأراغوز. عرف تقنيات الكتابة. اختار حياته على طريقة الشعر: موزاييك من حكمة الشعوب وروحها الخفيفة والعميقة في ذات الوقت. يكتب عن السكران بالكراوية (المشروب الشعبي) ويتغزل بالصلاة والصوم. يبحر وراء الشعر الخالص المجرد. كأنه يغنّي للشعب. يكشف ثقافته الغائبة. قبطان وليس مسافراً عادياً، مثل صلاح جاهين يمكنه أن يضعك في مرتبة شريك مأساته الشخصية... ويصبح رفيق رحلة. إنه معلم ومرشد ودليل وشيخ. صلاح جاهين تعلّم منه الشعر. والأدق أنه اكتشف القصيدة العامية على يديه. لكنه أصبح نجماً عمومياً وصديقاً يترك فيك علامات بأظافره. لكن فؤاد حداد بقي مجرداً يخربش فى جدران أكبر، يصنع الطرق ويعبّدها، يهندس المدن بينما صلاح جاهين يلعب فيها.
كثيرون أغرموا بالمقارنة بينهما. التلميذ أصبح أكثر شهرة من أستاذه. صلاح شاعر سلطة كما اتهموه. وفؤاد مضاد لها كما تخيّلوا. كلاهما لم يكن كذلك بالضبط. هما في علاقة نسب شعري وعائلي (ابنة صلاح تزوجت ابن فؤاد). نسب من نوع نادر يعلي من الاختلاف أكثر من التشابه.
لم أحب كل الألقاب التي اقترنت بفؤاد حداد: “والد الشعراء” كما قال عن نفسه. “شاعر الشعراء” كما قالوا، ليشيروا الى موهبته والتصاقه بأصفى ما في الشعر. ولا حتى “الاب الروحي” في الحلقة الأولى من برنامج تلفزيوني كتبته منذ سنوات. كلها ألقاب تصلح لكثيرين، وبعضها يدافع عنه في مواجهة ظلم وقع عليه بالفعل. وجرحني عندما سمعت زوجته (تزوّجها من دون موافقة العائلة وتحدياً لفكرة التكافؤ البسيط) تقول ببساطة وشجن لا يمكن إلا أن يخطفك: “هو اتظلم.. وهما عارفين انهم ظلموه”.
من ظلمه؟ السلطة؟ السلطة سجنته طويلاً في الزنزانة، وأوصلته إلى فوبيا تصيبه بدوار عندما يجد نفسه في أماكن مفتوحة. وكان علاجه أن يذهب إلى أزقة القاهرة القديمة. الفوبيا قادته الى عشق قديم، محظوظ ربما. الأهم أنه قادر على الاختيار في لحظات يصعب فيها الاختيار. عثروا له على وظيفة في “روز اليوسف”، منتجع اليسار في الصحافة المصرية. رفاقه هم المدراء والمعجبون به موظفون، لكنه رفض أن يقدم “فيش وتشبيه” (براءة ذمّة) قال لهم : أنا الشاعر. كان مجنوناً بالشعر، رغم مظهره العاقل. يرى أنه طليعة المقاومة، ليس في ساحة الحرب، بل في الحياة. المقاومة بمفهومها الأوسع، وجذورها الممتدة عبر الوجود كله.

“إزرع كل الأرض مقاومة” أمسية شعرية غنائية، من أشعار فؤاد حداد، تقدمها فرقة “الشارع” التي يشرف عليها ابنه أمين، على مسرح اليونسكو هذا المساء، على هامش “لقاء بيروت العالمي لدعم المقاومة”