strong>بيار أبي صعب
اختتمت مساء السبت الدورة العشرون لـ“أيام قرطاج المسرحيّة”. وكان “التانيت الذهبي” من نصيب “آخر فيلم” للمخرج نوري بوزيد، أبرز رموز السينما التونسية البديلة. هنا قراءة للفيلم الذي يتناول الخطاب الإسلامي الراديكالي... ويغفل الظروف السياسية التي أفرزته

بعد “ريح السد” (1986)، فاز نوري بوزيد للمرّة الثانية بـ “التانيت الذهبي” في“أيّام قرطاج السينمائيّة”، عن أحدث أعماله “آخر فيلم” أو Making Of حسب العنوان الأجنبي. في فيلمه الروائي السادس الذي يدور حول التطرّف الاسلامي والعنف، يقترب بوزيد (1945) من مناطق مزروعة بالألغام. وملامسة المحظورات السياسية والاخلاقية والاجتماعية، ليست بجديدة على مسيرة هذا المخرج والسيناريست المميز الذي يمكن اعتباره “شيخ” السينما التونسيّة البديلة. كل عمل من أعماله يأتي ليضع الإصبع على جرح من جراح المجتمع التونسي (والعربي) الكثيرة... وَهْم الذكورة في مواجهة المجتمع وتقاليده عشيّة الزواج في “ريح السدّ” (1986)، القمع السياسي في “صفائح من ذهب” (1989) الذي هوجم بسبب شخصيّة أستاذ العود اليهودي التونسي، السياحة الجنسيّة في “بزنس” (1993)، أوضاع المرأة في “بنت فاميليا” (1998)، وأخيراً تجارة الرقيق المعاصر في “عروسة الطين” (2002). الفرد في أفلامه هو على الدوام في مواجهة المؤسسة، المجتمع، السلطة، نظام القيم السائدة، البنى البطريركيّة المستبدة...
في الشريط الجديد يتناول التطرف الإسلامي وإشكالية العنف، من خلال العمليات الاستشهادية والـ“كاميكاز” حسب العنوان الأوليّ الذي وضعه نوري خلال التصوير. لكنّنا نجد أنفسنا أمام فيلم Hip Hop... في جزئه الأوّل على الأقل! عمل المخرج، وهو كاتب السيناريو، على التقاط ثقافة الشارع، كما يعيشها شباب همّشته الدورة الاقتصادية، بقدر ما همّشته الحياة السياسية، فبدا متروكاً على قارعة العصر، عاجزاً عن اللحاق بزمنه، حلمه السفر أو الهروب، ملاذه ــــــ أو عزاؤه ــــــ العنف بكل أشكاله: السلميّة أولاً، عبر مبارزات الرقص “البريك دانس” بين عصابات متنافسة، ثم العنيفة بعد الاستسلام لإغراء الخيارات السياسية الراديكاليّة. بين الـ“راب” والـ“هيب هوب” ــــــ وما يتناسب معهما من أزياء وحركات ومفردات وتصرفات وعنف لفظي ــــــ نكتشف هذا الجيل التونسي الجديد الذي يتحرّك ضمن دائرة مغلقة، وقد سدت بوجهه الآفاق جميعها، داخل البلد... وخارجه، إذ تقفل أبواب الهجرة السريّة الى إيطاليا!
يغرف المخرج من جماليات “الموجة الجديدة” في السينما الفرنسية، لجهة توظيف الواقع في الفيلم، أو خلق حالة من التغريب من خلال لعبة الفيلم داخل الفيلم. لقد بنى فيلمه على شخصية “بهتة”، وهي تستعير الكثير من ملامح الممثل الذي يؤديها. راقص الهيب هوب والبريك دانس في الفيلم، ذاك الذي يواجه مجتمعاً يحتقر الرقص، ويعتبره عاراً أو ذكورة ناقصة، ليس بعيداً عن شخصية الممثل لطفي عبدلّي الذي نعرفه راقصاً بالدرجة الأولى. نحن أمام النزق نفسه، العنف نفسه، والطاقة العصبية والجسديّة نفسها، والعلاقة بالرقص رهاناً على الخروج من دائرة البؤس الاجتماعي... لطفي عبدلّي هو الاكتشاف المدهش في فيلم نوري بوزيد الذي يشهد على ولادة ممثل من نوع خاص، يتميّز بديناميّة واندفاع وقوّة أداء وشاعريّة ساخرة كأنّه طالع من أحد أفلام بيار باولو بازوليني الذي تحيل إليه أفلامه باستمرار.
بهتة ابن الهامش يقدّس أمّه (فاطمة بن سعيدان) ويحتقر والده، ولا يخشى السلطة، ويفشل في البكالوريا، وينصرف الى عمليات النشل مع عصابته من الراقصين ــــــ الزعران. يريد أن يصبح رجلاً، أن ينجح، أن يحبّ سعاد التي لن تفلت من ذكوريّته وعنفه الجسدي. لكن الشرطة بالمرصاد، والبؤس يطارده، والفشل نصيبه، والأمكنة تضيق به. ومهرّب المهاجرين السريين أخذ من الفلوس التي سرقها من تحويشة جدّه، ولم يأخذه الى إيطاليا بسبب... حرب العراق!
القهر السياسي والقومي، يأتي ليعطي الفيلم الزخم الدرامي الذي يحتاج إليه! من أجمل المشاهد ذلك الذي يدخل فيه “بهتة” الى المقهى، متنكراً ببذلة شرطي سرقها من قريبه، ويروح يلقي في الناس خطبة تأديبيّة هاذية... ينتهر عجزهم ويدعوهم الى التمرّد والتعبير عن غضبهم بعد سقوط بغداد. المشهد إدانة للجهاز القمعي بقدر ما هو تعبير عن قهر دفين، وغضب سياسي ووجودي لا يعي بالضرورة خلفيات الصراع. بوزيد، التروتسكي القديم الذي قبع سنوات في سجون بورقيبة (1973 ــــــ 1979) اشتغل في كل أفلامه على القهر، على آلة الإذلال التي يطحن بها المجتمع (أو الدولة) أفراده. العنف ضد الأطفال، ضد المناضلين السياسيين، ضد المرأة، ضد الخادمات الريفيات... هنا سيكون الرد على الذل، هو بالانزلاق الى مطبات الراديكالية السياسية.
يقع بطلنا بين براثن خلية اسلامية، يعرض زعيمها (لطفي الدزيري) حمايته من الشرطة، ويعطيه المال الذي يحتاج إليه. وتبدأ عمليّة غسل الدماغ والتحوّل في اللغة والسلوك، كما تبدأ عمليّة المواجهة بين الشاب النزق والخطاب التعبوي المتطرّف. وهنا تطالعنا كل الكليشيهات الرائجة لدى تصوير الاسلاميين: الجنة والنار والصراط المستقيم والحرام وعذاب القبر والتطهر والتوبة والانتقام من المارقين... هذا الجزء من “آخر فيلم” هو الأكثر اشكالية والأكثر إثارة للجدل. تتمرّد الشخصية على خالقها ــــــ كما في مسرح بيرندللو ـــــــ فينقطع التصوير ثلاث مرات، لنشاهد مشادة بين لطفي ونوري (من هنا العنوان الانكليزي “ميكينغ أوف”، أي تصوير التصوير). هذا التغريب البريختي يريده المخرج جمالياً، بقدر ما يريده تربوياً. يعطي نفسه فرصة التعبير عن مواقفه هو، في مواجهة لطفي الخائف من المجرى الذي تتخذه الأحداث. ينفر الممثل المترّد من هذا الإسلامي الذي يريد أن يكرّهه بالرقص. ثم ينتهر المخرج: أنت تسيء الى الإسلام حين تصوره بهذه الطريقة. ومرّة ثالثة يعود الممثل مذعوراً: أنت تتلاعب برموزي، أي صورة نعطي عن أنفسنا للعالم؟
الصورة التي يعطيها نوري بوزيد عن نفسه، أنّه “علماني” وضدّ الأصوليّة. وهي صورة سيحبّها الجمهور الغربي كثيراً. أما المعنيون بالصراعات السياسية والاجتماعية والقومية، داخل تونس وخارجها، فمسألة أخرى. المخرج يطلب من بطله أن يخاطر مثله، ويذهب الى النهاية. فالشخصية ليست لسان الحال المخرج ولا الممثل، إنّها كائن متخيّل يطرح النقاش: “لست ضد الإسلام” يقول نوري، “لكنني أعتقد أن الاسلام انتماء ثقافي وروحي، ولا ينبغي بعد اليوم أن يتدخّل في السياسة. أطالب بنظام علماني يتسع للجميع”.
سيقتنع لطفي/ بهتة بخوض المغامرة حتى النهاية. سيمضي في راديكاليته الانتحارية اليائسة حتّى الذروة. يركض مزنّراً بأصابع الديناميت في شوارع تونس، محاولاً الانتقام من الذين ورّطوه في هذه اللعبة. في أحد مخازن المرفأ، سيؤدّي رقصته الأخيرة. الشرطة تطارده، حبيبته سعاد ورفاق الشلّة وأخوه الأصغر على دراجة المراهقة يبحثون عنه لإعادته الى رشده. يدخل بهتة في أحد “الكونتينرات”. يفجّر نفسه.
نخرج من العرض بشيء من الحيرة. كلّ نوري بوزيد موجود في هذا الفيلم الذي لا يخلو من الجرأة والصدق، لكنّه يقع في مطبّ “التنويريّة الشيك” كما نقترح تسميتها من الآن فصاعداً. السيناريو يفتقر الى الجدليّة، الى محاولة فهم الآخر، ما وراء ستار الكليشيهات والأفكار المسبقة ومنطق الأبيض والأسود. من البديهي، والمطلوب ربّما، أن يكون الفرد العربي اليوم علمانياً، وضد النزعات الاستشهادية والمتطرّفة، ومع فصل الدين عن الدولة. لكن الأهم أن يفهم ما الذي أوصلنا الى هذا الوضع. المخرج يصوّر “الخيار الاسلامي الراديكالي” بطريقة سهلة، فيبدو لنا وباءً أو كارثة طبيعية، لا حركة لها مسبباتها وخلفياتها وجذورها في الواقع. فيما المواجهة الشجاعة اليوم، تكون مع المسؤولين عن هذا الانهيار العظيم، لا مع أحد إفرازاته!
سيصفق الأوروبيون طويلاً لبوزيد في المهرجانات، وهو سينمائي كبير يستحق ذلك. وسيكتب النقاد عن شجاعته، في حين أن فيلم Making Of من هذه الزاوية ليس شجاعاً، بل هو منسجم مع مصالح الخطاب المهيمن. إنّه politically correct إذا جاز التعبير. خلافاً لمسرحيّة مواطنه الفاضل الجعايبي (الممنوعة) “خمسون”، لا يتوجّه بوزيد الى ممثلي “المشروع الاسلامي”، من موقع الاحترام والمحاججة. لا يحاول أن يفهم، ولا يدخل في حسابه الأكثرية المعرّضة لإغراءات ذلك المشروع. بل يعيد إنتاج المنطق (الرسمي) السائد عن العرب والاسلام، داخل تونس وخارجها. وهذا لا يتطلب شجاعة كبيرة.