خليل صويلح
بالنسبة إلى المشاهد “المثقف”، أو ما يطلق عليه زوراً اسم “النخبة”، ربما كان هو الوحيد المستثنى من الوليمة التلفزيونية. عدا نشرة الأخبار التي هي على أي حال تخص الجميع، ليس لديه عملٌ يُذكر. هو لا يجيد الطبخ ولا يريد ان يتعلم، كــــــي يتفرج على برنامج “الشيف رمزي”، ولا يستبشر خيراً في مشاهدة عالمة الفلك، كي يطمئن على برجه، ولا يقتنع بما يقوله الدعاة، ما دام لكل داعية مذهب وتيار. وهو أيضاً، ينظر بازدراء إلى أغاني الفيديو كليب، بعد أن وضعها في خانة “الأغاني الهابطة”. ولا يحب كرة القدم بوصفها لعبة للرعاع، “أولئك الــــــذين يستعملون أقدامهم بدلاً من أدمغتهم”. ولا يتفرج على النشرة الاقتصادية، لأنه لا يمتلك أسهماً في البورصة، كي يضع يده على قلبه، خوفاً من انهيار رصيده. ولا يتابع المسلسلات الدرامـــــــية باعتبارها موجهة لربات المنازل والعاطلين من العمل و“المخيّلة”. ولا يرغب في الزواج من طريق برنامج تلفزيوني، لأنه لا يؤمن إلا بزواج عـــــن حب عاصف، تمخض عن ديوان شـــــعر كامل. ولا يصمد للحظة أمام برنامج “عالم الحيوان”، إذ لا يعنيه كيف تتحول اليرقة إلى فراشة، أو كيف تتوالد السناجب. وليس لديه رغبة في أن يصبح مغنياً بتقليد أغنية لمطرب كلاسيكي مثل رامي عياش. وهو لا يحب الكوميديا كي يتفرج على ألعاب الكاميرا الخفية أو “طاش ما طاش”. ها هو أخيراً يجد برنامجاً ثقافياً مخصصاً لأمثاله: شخص رصين يجلس قبالة المذيع أو المذيعة. الشخص يرتدي ربطة عنق بالطبع، وإلى يمينه “مزهرية”. المذيعة التي سوف تقدمه للمشاهدين، تعرفت به قبل أن تدخل الاستديو بدقائق، وسألته عن اسمه الثلاثي، وعناوين كتبه... هكذا تبدأ وجبة ثقافية بطبق حساء مؤلف من: موقف الضيف من الغزو الثقافي، ورأيه في مخاطر العولمة، والصراع المحتدم بين الأصالة والمعاصرة. ثم تدخل، بعد فاصل عن أبرز الأوابد الأثرية في البلاد، في باب السيرة الذاتية، فنتعرف على الفور بقديس حقيقي بلا أخطاء أو هفوات في حياته. وهو يقدّس المرأة، ويحب أم كلثوم وسيد درويش وبيتهوفن، ويغرّد بالفصحى، ويصحح جملته أكثر من مرة، إذا كانت بالرفع وقد لفظها بالنصب. ولن تشعر المذيعة بالبهجة إلا لحظة وداعه، بعبارة من نوع “شكراً للأستاذ الكبير الذي أمتعنا برفقته”.
لا نريد محطات ثقافية على هذه الشاكلة، فهي لن تقل كارثية عما سواهــــــــــا. فالـــنماذج المتاحة حتى اليوم، لا تزال غارقـــــــــة في الإنشاء السقيم، وتفــــــــــــتقر إلى أدنى أسباب المتعة، ثم من الذي أقنع أصحاب هذه البرامج بأن الضجر مقياس للثقل المعرفي؟