الرباط ــ ياسين عدنان
من منّا لا يتذكّر الأمين العام لحزب الله وهو يدعو المشاهد الى النظر صوب البحر حيث تحترق البارجة الاسرائيلية التي كانت تقصف بيروت؟... إنّها حرب أخرى، كانت تقع في ساحة أخرى، أكثر خطورة وأعظم تأثيراً... إنها حرب الصور التي ناقشها اختصاصيون أخيراً في الرباط

كيف تحيا الصورة وكيف تكابد موتها؟ ما مدى قوتها؟ وهل للصور حدود أصلاً؟ ثم كيف تتماسّ الصورة والواقع؟ وأيهما الأصل؟ أيهما يصنع حياة الآخر؟... لم تكن هذه الأسئلة سوى مداخل لنقاشات طويلة دعت إليها «مؤسسة هاينرش بُل» الألمانية على مدى يومين احتضنهما معهد غوته في الرباط الشهر الماضي. وشارك في الورشة عدد من الخبراء والصحافيين من مؤسسات اعلامية عربية وألمانية.
حاولت الورشة الأولى مساءلة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول التي نشرتها صحيفة دنماركية العام الماضي، وأثارت ردود فعل عنيفة آنذاك. مرت الأزمة الآن. لكن هل يجب أن ننساها وننصرف ببلادة الى حياتنا اليومية في انتظار غيرها؟ فضلت الورشة على الأقل مساءلة تلك الأزمة: كيف نجحت رسوم الكاريكاتور تلك في أن تُنسينا صور الأسرى العراقيين في سجن أبو غريب؟ ولماذا حرَّكت في الشارع العربي ردود فعل غاضبة لم تنجح صور القتلى الفلسطينيين في تحريكها؟ هل كل هذا الغضب الذي عرفه الشارع العربي كان بسبب الصور؟ أم هناك من اشتغل في الظلّ وخارج إطار الصورة، لأهداف تخصّه ليصير لهذه الرسوم السخيفة كل هذا التأثير؟ ثم هل كلّ هؤلاء الذين انتفضوا ضد هذه الصور شاهدوها؟
من جهة أخرى، هل يحق لأي كان أن يجرؤ على مقدسات الآخرين ليعبث بها؟ أي قانون يمنحه هذا الحق؟ ومع أنّ الرسوم تبقى قصة دنماركيّة داخلية، والمفروض أن العالم العربي الإسلامي غير معني بها لأنها غير موجهة له. لكن، هل يمكن هذا العالم أن يبقى مجرد موضوع للصورة، وبالتالي لا حق له في قبولها أو الاحتجاج عليها، ما دامت غير موجهة إليه. ثم أما زال من الممكن في زمن مُعَوْلم كهذا أن نتحدث عن الصورة باعتبارها شأناً داخلياً؟ وهل يمكننا اليوم أن نمنع جمهوراً آخر، بخلفية سوسيو ــ ثقافية مختلفة من أن يتلقى صورنا الخاصة ويتفاعل معها على طريقته هو الخاصة، بدعوى أنها غير موجهة إليه؟ وأيضاً، ما هي حدود مسؤولية منتج الصور؟ هل هو مسؤول فقط عن صوره، وعن فهمه الخاص للصور التي أنجزها؟ أم هو مطالب بأن يأخذ في الاعتبار كل التأويلات الممكنة التي يمكن أن تصدر عن جمهور من ثقافة أخرى؟
هناك اليوم حديات جديدة مطروحة أمام المشتغلين على الصورة، وعلى الجميع أن يعي أن العالم بات مطالباً بتحديد أعراف كونية جديدة، تقنّن مجال إنتاج الصور.
ندوة «هاينرش بُل»اكتفت بطرح الأسئلة. لم تغامر في محاولة تحديد هذه المعايير، لكنها خلصت إلى حاجة العالم الملحة إليها. أما المزايدة على العالم العربي والإسلامي بدعاوى حرية التعبير التي يتمتع بها الغرب، فقد تصدى لها المفكر الألماني هانس بلتين. أوضح هذا الأخير أنّ علاقة معقدة تربط بين الرقابة والتسامح في الغرب. الأمور ليست بالبساطة التي يزعمها بعضهم. إذ إنّ للغرب أيضاً تابواته الخاصة. «لن يجرؤ أحد في المجتمع الألماني على نشر كاريكاتور لليهود» يؤكد بلتين. «إنه تابو حقيقي. والكل منضبط لما تمرّنّا عليه طويلاً من ضرورة أن نتذكر دائماً ذنبنا الجماعي تجاه اليهود».
خصّصت ندوة الرباط أيضاً ورشة ثالثة لدراسة دور الصور خلال الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على لبنان. كيف شاركت الصور في الحرب؟ صحافية ألمانية اعتبرت أن أحد أبرز مظاهر إشراك الصورة في الحرب، قام بها الأمين العام لحزب الله عندما خاطب المواطنين على التلفزيون طالباً إليهم أن يشاهدوا مباشرةً، البارجة الإسرائيلية التي كانت تقصف بيروت وهي تحترق. وبالفعل، استجابت الصورة بانصياع مذهل لمشيئة الفاعل السياسي. هكذا صارت جزءاً أساسياً من اللعبة، من «لعبة الحرب» كما سماها صحافي من التلفزيون المغربي عَرَض أمام الحضور غلاف العدد الأخير من مجلة «زوايا» اللبنانية. وهو الغلاف الذي تتصدره صورة التقطتها رين محفوظ في منطقة بعلبك، وتُظهر دعاية عملاقة لكوكاكولا على جدار أبيض لأحد المتاجر الصغيرة، وعلى طرف الحائط نفسه شعار حزب الله. كان الرمزان متجاورين في صورة صامتة. لكنه صمت عنيف يجعل من ذلك الجوار الصعب أمراً عسيراً على الهضم. تماماً كما يتجاور منتخبان لكرة القدم لحظة عزف النشيد الوطني. الأصل في العلاقة هو المنافسة والرغبة في تحقيق الانتصار. أما الوقوف جنباً إلى جنب بهدوء فليس أكثر من تمويه. لحظة انتظار ثقيلة. وطبعاً جاءت الحرب الأخيرة لتعطي لتلك الصورة معناها. لكن أيهما الأصل؟ الحرب أم صُوَرُها؟ ما الذي نعرفه أصلاً عن الحرب على لبنان خارج الصور؟ هل يمكننا أن نُكوِّن فكرة عن الحرب خارج طوفان الصور الجارف الذي ظلت تقصفنا به الفضائيات؟
مرة أخرى، اندلع حريق صغير داخل القاعة التي احتضنت الورشة، عندما شرحت صحافية من قناة فضائية ألمانية أن إدارتها كانت حريصة على عدم بث صور الجثث، احتراماً لأرواح الضحايا ومشاعر الأحياء، ورفقاً بمشاهديهم الصغار. لكن، ألا يمكن أن تتحول هذه «الرقابة» ذات الدواعي الإنسانية على الصور إلى طمس معالم الجريمة؟ إن الصور الفظيعة جزءٌ من الحرب، بل هي حقيقة الحرب المُرة والقاسية. فكيف ندَّعي تغطية الحرب في شكل يومي، فيما لا نسمح لجمهورنا بمعرفة أهوالها الحقيقية؟ ثم ماذا لو سمحنا للجمهور بمشاهدة الصور؟ قد يستشعر خطورة الحرب، ويكتشف أنها ليست مسلسلاً تلفزيونياً مشوّقاً كما كان يعتقد. وقد ينتفض ضدها في هذه الحالة؟ لكن الصور باعتبارها جزءاً من الحرب، فضلت أن تخوض المعركة على طريقتها. الصور التي كانت تنقل جثث القتلى كانت تشارك في الحرب من موقعها. والأخرى التي مارست رقابتها على هذه الصور كانت تعطي مقترف هذه المذابح الفرصة لمواصلتها على أرض الواقع. إنها حرب أخرى، كانت تقع في ساحة أخرى، أكثر خطورة وأعظم تأثيراً... إنها حرب الصور. أما لقاء الرباط فقد نجح على الأقل لأنه جعل المشاركين يقرون بأن علينا جميعاً العمل بنزاهة على تثبيت معايير أخلاقية لتلك الحرب (حرب الصور)، ووضع قواعد لها. والأكيد أن التحكّم بالصورة يبقى الطريق الأنجع للتحكم بالواقع. الصورة اليوم صارت هي الأصل. أو على الأقل هذا أخطر طموح لها. وهو ما يجب أن نحتاط منه قبل أن نتحول جميعاً إلى ضحايا.