أمل الأندري

لوحات فرناندو بوتيرو عن سجن أبو غريب، عرضت في مدن عدّة... لكن أبواب الولايات المتحدة بقيت موصدة في وجهها، إلى أن استضافتها أخيراً «مارلبورو غاليري» في مانهاتن. عودة إلى مشاهد تُمسْرح الشعور بالذل والألم وانكسار الإنسانية

فرناندو بوتيرو غير مرغوب فيه في الولايات المتحدة. أشهر فناني أميركا اللاتينية بات ظلّه ثقيلاً على بلاد العام سام، لأنّه هذه المرّة يقدم لأميركا مرآة تعكس وجهها اللا ــ انساني القبيح. لوحات بوتيرو الـ٣٨ ورسومه الـ٤٢ التي جالت على مدن في العالم، لم ترضَ بها أي صالة عرض في الولايات المتحدة... باستثناء غاليري واحدة في مانهاتن، هي “مارلبورو غاليري” التي غامرت باستضافتها أواسط الشهر الجاري. إنها تستوحي همجيّة “سجن أبو غريب” العراقي، بعد الفضيحة التي طاولته قبل عامين، والوثائق البصرية التي تسرّبت، كاشفةً الهمجية والساديّة التي تعامل فيها سجّانون من جنود المارينز مع أسراهم العراقيين.
ما فعله الرسام والنحات الكولومبي المعروف ببساطته، أنّه أدخل الولايات المتحدة التاريخ... من الباب الأكثر إيلاماً. لقد مَسْرَح وصمة العار التي جاءت في عام 2004 لتلطّخ بلداً أراد أن يصدّر نموذجه الحضاري للعالم. يسخر بوتيرو بمرارة، يعيد انتاج الحالة المهولة. إنه طفل عابث مخادع كما في معظم لوحاته، يدخل التاريخ من باب موارب... كأول فنان تشكيلي يجسّد شعور العذاب والالم وخصوصاً ألم الجسد. موضوع لم يقاربه أي رسّام من قبل. أظهر بوتيرو مشاهد التعذيب في سجن أبو غريب التي وصلتنا عن طريق الصحافي المشهور سيمون هيرش في صحيفة “نيويوركر” ذات يوم من ايار (مايو) ٢٠٠٤. بيكاسو أرّخ في لوحة “غيرنيكا” مشاهد الحرب المهولة، والدمار الذي حلّ بتلك المدينة عام ١٩٣٧. وقبله جسّد الاسباني فرنشيسكو غويا هول الحرب. لكن كان علينا انتظار هذا “الطفل الكولومبي الذي لم يكبر”، بتعبير أحد النقاد، ليأخذ “التأريخ للفظاعة” بُعداً آخر، أكثر حميمية. الفنان يُشعرنا هنا بالألم والمذلّة، بالثقل الجسدي للإنسانيّة المستباحة، من لوحته ينفر في وجهنا دم أحمر، خيط رفيع يسيل على أرضية السجن ويتسرّب الى ضمائرنا.
عندما أعلن بوتيرو أنه يعمل على المشروع، ظن معظمهم أنّ عمله سيأتي مثل أعماله السابقة، يحمل من السخرية التي اشتهر بها بطريقة تخفف من وطأة الموضوع مهما كان مؤلماً، خصوصاً أنّ هاجس بوتيرو كما أعلن تكراراً، “تصوير الجمال”. وهو بذلك يقف على نقيض الفنان المكسيكي دايفد ألفارو سيكيروس الذي تختزن لوحته قدراً من الكراهية. وحين تطرّق الى الواقع الكولومبي في لوحته الشهيرة “عائلة الرئيس” ( ١٩٦٧) التي انتقد فيها النظام الكولومبي مظهراً انحلاله، فإن عمله لم يتعدّ السخرية المحببة، ولم يُظهر أيّ مشاهد قاسية وعنيفة.
في الواقع، تستمد لوحات بوتيرو تلك السخرية المحببة من الشكل الذي تتخذه الموضوعات المرسومة. لقد رسم مشاهد الحياة اليومية في كولومبيا، ورصد عالم الأرستقراطية بطريقة هزلية... واشتهر خصوصاً برسم الأشخاص ليظهر عبث وجودهم بطريقة فكاهية. أبطال بوتيرو كلهم بدناء. حتى الموناليزا تحت ريشته باتت مضحكة ببدانتها. اجتهد النقاد في تحليل هذه البدانة، وصفوه بأنه طفل لم يشفَ من نرجسيته... فيما رأى بوتيرو بكل بساطة أن الفنان ينجذب الى شكل معين في حياته. وكالعادة، غافلنا بوتيرو في تصويره لمشاهد التعذيب في سجن أبو غريب. جاءت لوحاته ورسومه أشد وقعاً من تلك الصور التي رأيناها غداة انتشار الفضيحة. صور هيرش تركّزت على اللذة التي كان يشعر بها الجلادون في السجن، عبر ممارستهم شتى أنواع التعذيب. وتركزت الادانة العالمية على السجانين... لكن أين الضحايا؟
ها نحن نتقمصها في لوحات بوتيرو، حيث تحتل المشهد بدمائها وقيئها وأجسادها الضخمة. لم نعد نفكر بالجلاد، بقدر تفكيرنا بالضحية التي يصدمنا ألمها وعذاب جسدها فينتقل إلينا كالعدوى... وحالة التماهي مع الضحية أقوى هنا، حاضرة أكثر مما يمكن أن تكون عليه في العلاقة التي نشأت بيننا وبين الصور المنتشرة في وسائل الإعلام.
يترجم بوتيرو ما لا تمكن ترجمته: الشعور بالذل والألم. في احدى اللوحات، نرى ثلاثة أسرى عراقيين مكدّسين كالنفايات، ومكبلين على ارض الزنزانة بأجسامهم الثقيلة والبليدة التي تحتلّ الزمان والمكان... فيما الدم يسيل على الارض. ونرى في لوحة أخرى جندياً يضرب بهراوة عراقيّاً مكبلاً وعارياً، في وضعية تحيلنا الى زمن العبودية الجديد.
يمكن القول إنّ مشاغل بوتيرو الفنّية تحوّلت جذرياً منذ العام الماضي. إذ إن لوحاته الأخيرة التي أنجزها عن حرب العصابات في كولومبيا، جاءت ملأى بالدم والموت والعنف. قال إنّه لا يستطيع أن يبقى صامتاً إزاء صراع عبثي الى هذه الدرجة. وفي المنطق نفسه، شكلت لوحات أبو غريب “صرخة احتجاج على كل ممارسات التعذيب في سجون العالم، ووسيلة ناجعة ضد النسيان”.
في مانهاتن، وقف فرناندو بوتيرو (٧٤ عاماً) ليدلي بتصريح صحافي على هامش معرضه في “مارلبورو غاليري”. قال: “رفض المتاحف الاميركية عرض هذه الاعمال امر مزعج في بلد يتمتع بحرية التعبير...”. أعرب الطفل الكولومبي عن أسفه، فيما بانت في خلفية الصورة، لوحة تظهر سجناء نُزعت عنهم ملابسهم، وانهال عليهم الحراس بالضرب تاركين ما بقي من لحمهم لقمة سائغة للكلاب!