strong>رلى راشد
في مسرحيتها الجديدة، تعود صاحبة نوبل الناقمة على المجتمع السلطوي والذكوري، الى صفحات دامية ومؤلمة من التاريخ الالماني الحديث. إلفريدي يلينك تعلن حرباً متأخرة على... “الجيش الأحمر”، فوق خشبة مزروعة بالألغام في هامبورغ.

أكملت إلفريدي يلينك عقدها السادس. تسلّلت التجاعيد الى وجه يسكنه القلق ورُهاب الجماعة، لكنها لم تنل من عزيمة كاتبة ناقمة تمضي في تشييد عالم سوداوي يقف عند تخوم الثقافة الشعبيّة، فيما نزلاؤه رهائن في مجتمعهم.
وها هي الكاتبة المسرحيّة والروائيّة النمسويّة التي نالت نوبل الآداب قبل عامين، تواصل الغوص في الذاكرة المعذبة والوعي الشقي لجيلها. في عملها المسرحي الجديد «أولريكي ماريا ستيوارت» تتجرأ على تجاوز الحاضر الى ماضٍ لم تنته فصوله. لا تقف الكاتبة على حافة التاريخ بل تستعيد «الخريف الألماني» ومنظمة «بادر ــ ماينهوف»... تلك الحقبة من العمل الثوري الدموي (الارهابي) الذي عاشته ألمانيا في السبعينيات والثمانينيات.
على خشبة مسرح «تاليا» في هامبورغ، ترتفع هذه الأيام النجمة الحمراء، بعد احتجاب طويل: شعار الجيش الأحمر في ألمانيا. تعيد إلفريدي يلينك احياء أفراد هذه المجموعة الماويّة لتجعلهم شخصيّات محوريّة بعد ثلاثين عاماً على العمليّات التي نفّذوها: من اعتداء وخطف واغتيال. من خلال تلك العودة الى التاريخ تصفّي صاحبة «شهوة» حسابها مع الأسطورة المؤسِّسَة لهذه المجموعة، وتحمّلها مسؤولية الاساءة الى اليسار الالماني، إذ أمسى ذلك اليسار بسبب فصائل الجيش الأحمر، «راقداً في سرير مستشفى».
تختار يلينك امرأتين من مؤسسي فصائل الجيش الأحمر في ألمانيا: أولريكي ماينهوف وغودرون إنسلين. تحتجزهما في عمل يهدف الى اعطاء الصوت لنساء صنعن التاريخ. يتقاطع قدر ماينهوف وإنسلين مع قدر شخصيّات تاريخيّة أخرى من بينها الأميركية والناشطة السياسية الأولى ماريا ستيوارت، والملكة اليزابيث الأولى. أما القاسم المشترك بين أولئك النساء فهو النضال من أجل السلطة وبلورة هويّتهن الخاصة. يُفضي ذلك الى نشوء صراع ثنائيّ: أولريكي ماينهوف / ماريا ستيوارت من جهة، وغودرون إينسلين / اليزابيث الأولى من جهة ثانية.
تبتكر يلينك شبكة لغويّة تتسلّل إليها الإباحية والسياسة، بل تتداخلان فيها من خلال اقتباسات تعود الى «الخريف الألماني» وأخرى تاريخية من مسرحية «ماريا ستيوارت» (1801) للشاعر والفيلسوف الألماني فريدريش شيللر التي تستحيل فيها الملكة الاسكتلنديّة بطلةً تراجيديّة يستغلّها الجميع بمن فيهم اليزابيث الأولى.
وتنسج مسرحية «أولريكي ماريا ستيوارت» علاقات دراميّة بين وجوه معاصرة وأخرى تاريخيّة، فيما تتأرجح وتيرة الدراما بين الحياة والهلاك، بين الجنون الهاذي والمنحى التراجيدي. يُشبه الهذيان التاريخي في نصّ يلينك «علبة موسيقى» تتدافع فيها الإيقاعات، فيلحق التاريخ بالحاضر ليصبح تخيّلاً. كل هذا بفضل الإخراج الذي حمل توقيع نيكولاس ستيمان، المخرج «المعتمد» لمسرح يلينك في اللغة الالمانية.
طوّع ستيمان الوسائل السينمائية والموسيقية، وعمد الى تفكيك بنية النص، علماً بأن نصوص يلينك مُفككة أساساً. في منحى ما، تُمسي أولريكي وغودرون تقمّصاً لإليزابيث الأولى وماريا ستيوارت. هكذا، تناضل الشخصيات للاستئثار بالسلطة والرجال. لكن هذا التوصيف ليس الا الاطار الخارجي لدراما تحكي عن علاقة النساء بأنفسهن، وسط مسار ازدراء المرأة العُنفي بطبيعته. يركز ستيمان على هذه القراءة عن طريق «التهكّم»، إذ يجعل ماريا ستيوارت وأولريكي تتشاركان الغناء باللهجة النمسوية. وفي تلك الرؤية تطابق مع موقف يلينك من النسوية ونقدها لـ «تشييء» المرأة. وتأتي الخيارات الاخراجيّة لتبطل أي نزعة تقديسية من جهة المؤلفة.
«أولريكي ماريا ستيوارت» قراءة مُتشائمة للتاريخ، علماً بأن الثورة تبدو فيه على شيء من الجنون. هذا المنحى هو الذي يشدّد عليه ستيمان. إذ يكمل في رؤيته الإخراجية ما بدأه في عملين سابقين ليلينك هما «العمل» و «بابل». يتجاوز مجدداً النص الأصلي، ليمنحه معنى مغايراً. وفي هذه المقاربة استجابة لرغبة يلينك في التعاون مع مخرج يشاركها رفض أي نزعة «سلطويّة» بما في ذلك على مستوى نصّها نفسه... هذا المشروع يحتل في أدبها مكاناً محورياً، اذ «تدنس» نصها تماماً كما قد يفعل أي «شهيد».ينطوي إخراج نيكولاس ستيمان على قدر من الألق وينتمي الى روح المسرح المعاصر. غريب وترفيهيّ في آن، يواكب مشهداً سياسيّاً موزّعاً بين الهزل وأضواء الكاباريه. ولمواجهة العقائديّة الضاغطة، يختار ستيمان الخفّة التي تسيطر على معالجة مسألة التطرّف السياسي. هكذا، يعمل على كشف درجة التكلّف في الخطاب الثوري المتطرّف، وهو خطاب خاو ــ في نظره ــ بات مُنسلخاً عن الواقع الراهن.
مسرحية يلينك غوص في الجراح الجماعية، وهي محاكمة لجيل كامل استسلم لأوهام العنف الثوري. والمعروف أن ألمانيا لم تقطع صلاتها بذلك الفصل من ماضيها، خصوصاً بعدما تكاثرت النظريّات عن تصفية سياسيّة مزعومة مارستها سلطات بون على ثلاثة أفراد من فصائل الجيش الأحمر الألماني، فارقوا الحياة في السجون بعد اعتقالهم. ناهيك عن العثور على أولريكي ماينهوف، زعيمة المجموعة الى جانب أندرياس بادر، مشنوقة في زنزانتها.
في الواقع لم تسرّ بِتينا روهل، ابنة أولريكي ماينهوف، بعمل يلينك الذي حضرت جزءاً من التمارين عليه. رأت فيه تزويراً لتاريخ عائلتها... وعبّرت عن خشيتها من أن يُسهم في تكريس التروما من فصائل الجيش الأحمر الألماني. طالبت بتعديلات على النص لم يرضخ لها مدير مسرح «تاليا». ووصل الأمر بالابنة الى رفع دعوى قضائية. ولا شك في أن المُحامين عانوا مشقّة إيجاد عناصر إدانة ملموسة في نص الكاتبة النمسوية المحفوف بالمخاطر والمزروع بالألغام.