نور خالد
لا فذلكة إعلامية أمام هيبة الموت. هكذا بدت الفضائيات، للوهلة الأولى، متشابهة في نقل مراسم تشييع الوزير بيار الجميل. لكن مهلاً: «انظروا إلى الشيخ، نعم شيخ سنّي يحمل نعشاً مسيحياً»، قال مراسل LBC. إلى أي مدى يمكن للصورة أن تكون بريئة؟ وهل أفلتت الجنازة من محاولات الاحتواء الإعلامي؟
الآن، إنه وقت الجنازة. الصورة للتابوت. جثمان في مركز التابوت وتابوت في مركز الصورة. الموت هو الموت. لا فذلكة إعلامية يحتاج إليها المشاهد في نقل صورته. الصورة واحدة، حين تكون الكاميرا داخل الكنيسة. لكن، في الخارج، قسمت المحطات اللبنانية شاشاتها الى صورتين، إحداها موحدة و“عامة” كما الموت، والأخرى خاصة و“شخصية”.
لا صوت لأجراس الكنيسة على تلفزيون “المنار”. انه ليس موقفاً دينياً بالتأكيد، فعدسة تلفزيون المقاومة كانت تنقل الصور من داخل كنيسة “مار جاورجيوس”. هو الموقف السياسي الذي أسكت أجراس الكنيسة، واستبدله بصوت جمال فاخوري، عضو المجلس الوطني للإعلام. فاخوري كان يتحدث عن “استغلال إعلام فريق الأكثرية لموت الجميل، وشنّ حملة ديماغوجية ترهيبية على أركان المعارضة”. شاءت “المنار” أن يكون صوت العقل الذي يميل الى سياستها أعلى من صوت الأجراس التي جلجلت على الشاشات الباقية. لم تثبّت قناة المقاومة صورة للتابوت وسط شاشاتها، بل عمدت الى تقسيمها اثنتين: صورة صامتة من الكنيسة، وصورة ناطقة بسياستها، من الاستوديو.
أما عندما يكون الكلام على مركز شاشة مثل “إل بي سي”، فلا بدّ من أن يحضر سمير جعجع. قام مهندسو الصورة في “المؤسسة” بإجراء تقطيع متسارع وذكي، فتنقلت الصورة بين وجه جعجع الداخل الى الكنيسة، ووجه الجميل المرفوع على لافتة في ساحة الشهداء. أرادت الصورة أن توحي، بلعبة مونتاج لأجزاء من الثانية، أن الجميل وجعجع وجهان لعملة واحدة: الوطنية والسيادة. هاتان الكلمتان تكررتا على لسان معلق “إل بي سي” الذي واكب البثّ المباشر، مفسحاً المجال مرة أخرى أمام المشاهدين كي “يستمعوا الى صوت الكاتدرائية”، ولافتاً النظر ــ في تعليق يحسب للـ“إل بي سي” ــ الى صورة ذلك الشيخ المعمّم الذي “هجم” في اتجاه التابوت للمشاركة في حمله.
قال المعلق: “انظروا الى الشيخ... إنه درزي... لا إنه سنّي... نعم شيخ سنّي يحمل نعشاً مسيحياً... هل هناك أبهى من تلك الصورة لتجسيد الوحدة الوطنية بين اللبنانيين اليوم؟”. القنوات الأخرى لم تنتبه الى صورة الشيخ. نقلتها فقط. لم يبدُ أحد، سوى “إل بي سي”، مكترثاً للتعليق على “مظهر من مظاهر الوحدة الوطنية”.
أيضاً، وحدها “إل بي سي” هي التي تذكّرت سمير الشرتوني. الرجل، رفيق بيار الجميل الجد والأب، كان “يستاهل” ربط اسمه باسم الشهيد، وقد اغتيلا معاً. “مراسم تشييع الشهيدين بيار الجميل وسمير الشرتوني”، عنونت “إل بي سي” صورتها. بينما نقرأ على المستقبل عن تشييع الجميّل (وحده!) في يوم الوفاء لشهداء الحرية والاستقلال “الجدد”، كما قال منير الحافي معلّقاً.
الفضائيات العربية بدت أمس أقل هدوءاً من الأيام الأخرى. لعلها استجابت للنداءات التي وجهت إليها بعدم صبّ الزيت على الدم اللبناني الذي يغلي باستمرار، ولا يحتاج الى “ولّاعات” إضافية. ريما مكتبي، من بكفيا، تتحدث الى فتاة من “حزب الكتائب”. تقول الصبية: “أريد للذين يحمل رجالهم السلاح أن يرجعوا الى التاريخ ليعلموا أن نساء الكتائب في وسعهن حمل السلاح أيضاً... اذا لم تنصفنا نتائج المحكمة الدولية”. تلقي الفتاة الكتائبية تهديدها على الفضائية العربية، وتختفي من “الكادر” بسرعة. تعلق مكتبي: “هذه الفتاة التي رأيتموها الآن، كنت أشاهدها منذ الصباح الباكر تحمل كيساً من الزهور وتبكي”.
توحي مكتبي أن الشاشة مسؤولة عن تحويل حَمَلة الزهور الى مهددين بحمل السلاح. تقدم، بتعليقها المستلحق، نوعاً من النقد الذاتي الذي يندر أن تسمعه. لا تكتفي بذلك، فهي، في موضع آخر، تستمر بالنقد معربةً عن أسفها على “عائلة الشهيد التي لا تستطيع أن تعبّر عن فجيعتها وسط خصوصية لا تقتحمها كاميرات الإعلام”.
أما المفاجأة فكانت أن “الفضائية المصرية” كانت تنقل التشييع، كما “الجزيرة” و“العربية” و“بي بي سي” و“سي إن إن”. وكان المشاهد يستمع الى صوت مراسلها حسن حجازي يحاول أن يقدم شروحاً مبدئية وتفصيلية الى المشاهد المصري القابع، على الطرف الآخر من البحر، في مدينته أو قريته أو “في الغيط”.
يشرح حجازي التركيبة السياسية الطائفية في لبنان، ويتحدث عن الأحزاب وتاريخ “الكتائب”، بطريقة مبسطة لم يكن ينقصها إلا شارة توضع على شاشة المصرية تقول: “بث مباشر.. للمصريين فقط!”. ثمة “خبير” سوري يتحدث الى قناة مصر من دمشق داعياً جميع الفرقاء الى... “ضبط النفس”!