دمشق ـــ خليل صويلح
الطابع الأكاديمي لكتاب “إميل حبيبي: الوهم والحقيقة” (“دار قدمس” ـــ دمشق)، لن يمنع الفضيحة! أو في أفـــــــــــضل الأحوال “النقاش” الذي يستحضر أشباح الماضي. المتهم هنا ليس شخصاً عادياً، أو كاتباً مغموراً، بل أحد أكبر الروائيين العرب، وصاحب المواقف الإشكالية والنقاشات السياسية الصاخبة، وكاتب رواية “الوقائع الغريبة في اختفاء سعـــــــــــيد أبي النحس المتشائل” التي أسست لمنحى خاص في الأدب الفلسطـيني. تلك الرواية التي أثارت، منذ صدورها (1974)، اهتمام النقاد والباحثين والقراء على مرّ عقود متلاحقة، وعدّت علامة فارقة في السرد الحكائي العربي. فصار بطلها “المتـــــــــــشائل” مصطلحاً شعبياً دارجاً. المتشائل مواطن فلسطيني رازح تحت وطأة هزيمة روحية عقب نكبة 48، وقد اختــــــار ــ مثل حبيبي ــ البقاء في بلاده التي أصبحت “إسرائيل”. وكلاهما لا يجد إلا السخرية سلاحاً أخيراً لمواجهة الواقع الجديد.
صاحب كتاب “إميل حبيبي: الوهم والحقيقة” خضر محجز، يقدم نفسه بطريقة خاصة: “ولدت في خيمة من خيم الأمم المتحدة في غزة، لأبوين مهاجرين من جنوب فلسطين. لا أؤمن بالعولمة، ولا بالحداثة، ولا بالماركسية ولا بالليبرالية الجديدة ولا بالإسلام السياسي. لا يعجبني العجب، ما أدى بي في النهاية إلى مغادرة “حماس” ورفض الانضمام إلى “فتح”... رغم المكاسب المتوقعة من كليهما”. كان مفتوناً برائعة “المتشائل” إلى أن شاهد إميل حبيبي يتسلم “جائزة الإبداع” الإسرائيلية (1992). ما قاده إلى مراجعة تاريخ هذا المناضل الفلسطيني ومواقفه السياسية والفكرية، منذ انتسابه إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي في أربعينيات القرن المنصرم حتى تأسيس مجلة “مشارف” (1994).
يلجأ الباحث إلى منهج النقد الثقافي الذي لا يفصل النص عن صاحبه، ليصل أخيراً إلى نتيجة مدوّية: “المتشائل” ليس سوى نسخة عن إميل حبيبي نفسه. هذا ما اعترف به هذا الأخير شخصياً، يلفت الكاتب، في آخر حوار أُجري معه قبل رحيله (1996)، على صفحات “مشارف”. قائلاً يومذاك: “كنت أكذب وأقول، في الماضي، إن شخصية سعيد أبي النحس هي عكس شخصيتي. لكنني صرت في عمر لا أحتاج فيه إلى الكذب. كنت أتحدث في المتشائل، إلى حد كبير، عن نفسي. أتحدث عن نفسي بمعنى العقلانية. وعقلانيته هي عقلانيتي إلى حد ما”. كأن الرواية برمتها كانت اعتذاراً بلاغياً عن الخيانة. يستنتج خضر محجز الذي يرى أن تلك الزخرفة الجمالية الحاذقة التي تنطوي عليها رواية “المتشائل”، ليست إلا وسيلة للتطهّر من ذلك التاريخ الأسود لصاحبها.
يشير خضر محجز إلى أن الرواية “تعج بالإشارات الرمزية والشِفرات المبثوثة في ثنايا النص لتأكيد القلق الوجودي للشخصية، وانشطارها بين ماض مهزوم وحاضر يشي بمكاسب جمة، وطمأنينة حياتية تحت مظلة المنتصر”. هكذا يزاوج المؤلف بين مواقف إميل حبيبي الفكرية، ومواقف “المتشائل” النفعية. يكتب محجز: “تجربة إميل حبيبي المحتدمة سياسياً في الحزب الشيوعي، وعضويته في الكنيست الإسرائيلي، جعلاه يقف على حد السيف، بين المنظور العربي للقضايا المصيرية والمنظور الإسرائيلي. إنه يرى الوجهين وينشطر بينهما”.
يذكر الباحث أن إميل حبيبي هرب إلى لبنان، قبل حرب 1948، خوفاً من انتقام رجال المقاومة الفلسطينية، بسبب موافقته على قرار تقسيم فلسطين. وبعد إعلان دولة إسرائيل، عاد إلى فلسطين بوساطة الحزب الشيوعي الإسرائيلي. ويمضي في قراءته المزدوجة، فيبدو له أن الرحلة عينها قام بها “المتشائل” وبظروف مشابهة. لكن حبيبي ظل ينكر مثل هذا التطابق، معتبراً أنّ أحداث روايته هي مجرد تخييل. وعندما حانت اللحظة المناسبة، اعترف بأنه هو “المتشائل”، مدفوعاً بحس براغماتي واضح. ويخيّل للباحث أنه وجد اللغز: فصورة فلسطين “ما بعد أوسلو” تتناسب مع ما كان ينادي به الأديب تاريخياً. كما يرى أنّ “الخيانة وجهة نظر”، و“الوقاحة القومية” لم تكن يوماً من صفات المتشائل، فهو “أول من اعترف بدولة إسرائيل، وتعلّم العبرية باكراً بسبب رؤيته الاستشرافية للمستقبل” (!)
ويرى خضر محجز أنّ الخطاب الجمالي الظاهر للرواية “كان يؤدي طوال هذا الوقت رسالة تخديرية”، ما جعل شخصية “المتشائل” مقبولة من طرفي الصراع: “من وجهة نظر عربية، بدت فضحاً معلناً لشخصية الخائن والعميل في خطاب جمالي شديد الخصوبة، مترع بالتراث والإحالات النصية والسخرية السوداء”. أما من الجانب الإسرائيلي، فجاء في حيثيات منح “جائزة الإبداع” لحبيبي “أن القصة العربية المحلية تحولت بفضله من نوع أدبي هامشي وثانوي، لتحتل موقع الصدارة. وهي مساهمة حقيقية وأصيلة في الأدب الإسرائيلي”. ويستشهد الباحث بتصريح لصاحب “المتشائل” الى صحيفة “الإندبندنت” البريطانية: “إن في الجائزة اعترافاً بالثقافة الفلسطينية في إسرائيل”.
ويبدو أن “المتشائل” قد ساعد حبيبي على التطهّر من “سرّ يقض مضجعه”: صاحب “سداسية الأيام الستة”، ذهب عام 1948 إلى براغ “لعقد أول صفقة سلاح إسرائيلية من أجل مقاومة الجيوش العربية وطردها من فلسطين”(!). هذه المعلومة الخطيرة التي نوردها على مسؤولية المؤلف، مجتزأة من مذكرات صموئيل ميكونس، الأمين العام للحزب الشيوعي الإسرائيلي آنذاك، ورفيق حبيبي في رحلتهما التاريخية إلى براغ. وقد شارك سميح القاسم في نشر الشائعة على أثر خلافاته مع صاحب “المتشائل”، وانسحابه من صحيفة “الاتحاد”. ما يجعل كل هذا الكلام، للأسف، في خانة تصفية الحسابات التي لا تمت بالكثير الى الأدب والسياسة والتاريخ. ولا شك في أن العارفين بأدب حبيبي وحياته، سيسارعون الى الردّ على تلك “القراءة الخاصة جداً” لمسيرة صاحب “المتشائل”. ألم نقل إن حبيبي ما زال قادراً على إشعال الحرائق؟




عشر سنوات على رحيله

عشر سنوات على رحيل إميل حبيبي ولم يتوقف الجدل حوله. فها هو الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور يكتب في رثائه “لا يوجد دهّان في العالم، يستطيع أن يمحو اسمك” متخلياً عن مواقفه السابقة تجاه صاحب “المتشائل”. وها هي بلدية حيفا تطلق اسمه على أحد شوارع المدينة في الذكرى العاشرة لرحيله. أما محمد بكري فقد أنجز شريطاً سينمائياً بعنوان “من يوم ما رحت”.
من جهتها، قرّرت دار “عربيسك” الإسرائيلية، صاحبة الحقوق الحصرية لأعمال إميل حبيبي، إصدار الأعمال الكاملة للكاتب الفلسطيني في سبعة أجزاء. على أن تصدر الأعمال نفسها في طبعة فلسطينية، وأخرى عربية، وثالثة عالمية بالتعاون مع “دار الشروق”. وفي باريس أنجزت الباحثة الفلسطينية ربيعة حمو دراسة باللغة الفرنسية، في أربعة أجزاء بعنوان “السيميائية في روايات إميل حبيبي”.