مهى زراقط
أنهت «العربية» بث حلقات «حكيم في زنزانة»، فيلم جيزيل خوري عن سمير جعجع. ما هي الصورة التي يتركها الفيلم في أذهان المشاهدين عن رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية»؟

وحيداً على الطريق المؤدية إلى محبسة مار شربل، ودّع “حكيم في زنزانة” مشاهدي قناة “العربية”، بعد ست ساعات حاول على امتدادها إدخالهم إلى السجن الذي قضى فيه 11 عاماً. يأتي هذا المشهد ليشكّل ذروة الترميز الديني المتصاعد منذ بداية السلسلة التي أسمتها “العربية” وثائقية... أي منذ طبع “قبلة يوضاس” على جبين رئيس الهيئة التنفيذية في “القوات اللبنانية” سمير جعجع غداة اعتقاله في نيسان 1994 (كما عبّرت زوجته ستريدا).
كان يمكن هذا المشهد الختامي، بكل ما يحويه من رمزية وجمالية فنية، أن يكون وقعه أقوى على المشاهدين، لولا وقوع الفيلم في فخ الدعاية المباشرة التي طغت، ليس فقط على عمليات الترميز الديني، بل أيضاً على الجماليات البصرية المضافة إلى المقابلات المسجّلة مع جعجع وزوجته، وقيامهما بأدوار تمثيلية. بل إن مجموع الحلقات كان يمكن أن يكون وقعها أقوى، لولا تغييبها الكثير من المادة الوثائقية، وهو ما جعل المشاهد (وخصوصاً غير اللبناني) يحاول عبثاً فهم “قصة” الفيلم (لجهة الدراما)، بمعزل عن رسالته.
الدعاية في الأفلام الوثائقية ليست جديدة، بل هي نشأت معها. وأولها ربما “انتصار الإرادة” (1935)، الفيلم الألماني المروّج لهتلر. غير أن تلك البدايات كانت في عصر الدعاية، والإعلام الرسمي الموّجه، لا في عصر الفضائيات الخاصة التي تشكل أبرز مجالات استثمار رؤوس الأموال عبر العالم، أو في عصر باتت فيه للأفلام الوثائقية وظيفة التأريخ. لذلك يمكن اعتبار هوية هذا الفيلم التلفزيوني، أبرز إشكالياته، وهذا ينسحب على الدور الذي يفترض أن يقوم به. إذ إن مناقشته لا يمكنها أن تتم قبل تحديد هويته: توثيقي؟ تسجيلي؟ دعائي؟..
الإجابة عن هذا السؤال تأتي عبر الإجابة عن أسئلة تمهيدية مثل: لماذا اختيرت “العربية” لبثه، وليس “المؤسسة اللبنانية للإرسال”؟ ولماذا اختيرت الإعلامية جيزيل خوري لإعداده، وليس الإعلامي جورج غانم الذي أعدّ أكثر من وثائقي مميّز لـ LBC في السنوات الأخيرة؟
أما السؤال الأهم فيأتي من خارج السلسلة: لماذ بثت “العربية” حلقة استثنائية من برنامج “مشاهد وآراء” لمناقشة مضمون الفيلم، وعرضت فيها مشهداً لجعجع وهو يعترف بأنه قتل طوني فرنجية؟ هل تبحث الفضائية السعودية فجأة عن سبل تبرئة نفسها من تهمة الدعاية لجعجع؟ أم تحاول تأكيد الموضوعية الغائبة عن الفيلم... وكان يمكن تحقيقها بقليل من الذكاء الذي لا تفتقر إليه القناة؟
لا شك في أن الفيلم لامس جوانب إنسانية تؤثر على المشاهدين. وكان جعجع لافتاً في الإضاءة على الكثير من التفاصيل الإنسانية البسيطة في حياة السجين: إضرابه عن الطعام لكي يغيّر واقعه من جهة، ولكي لا يضطر إلى الدخول إلى الحمام كثيراً. الأثر الذي كان يتركه في نفسه لون البندورة أو المشمش. صوت حذاء ستريدا وهي قادمة لزيارته... كلها تفاصيل يرغب المشاهد في معرفتها، لكنها لا يمكنها وحدها أن تغيّر شيئاً من نظرته إلى السجين، أو حكمه عليه، وخصوصاً أنه كان مصرّاً على عدم التطرق إلى ماضيه، ولم يعلن في أي لحظة ندمه على كل ما ارتكبه خلال ذلك الماضي الحافل.
إن ذروة الفيلم كان يمكنها أن تتمثل في اعتذار يتقدم به جعجع إلى اللبنانيين، في أسف يبديه على ما حصل. لكنه كابر حتى في السؤال الوحيد الذي طرحته عليه خوري عن هذا الموضوع: “إذا كان وليد جنبلاط ونبيه بري وميشال عون وإيلي حبيقة قد سجنوا معك فهل كنت شعرت بأن العدالة تحققت؟”.
في تلك اللحظة بالذات، كان يمكن لسالك درب الجلجلة أن يقنع المشاهدين بأنه تغير، وبأنه أصبح إنساناً جديداً، لكنه أجاب بـ :لا. مبرّراً موقفه بأن “الانخراط في الحرب لم يكن خياراً”. واللافت أن خوري صدّقت على كلامه بقولها: “الذين قاموا بها ماتوا”.
وهنا لا يمكن تجاهل مشهد الطفلة الصغيرة الذي استمر نحو دقيقة كاملة خلال حديث جعجع عن صورة طبعت في ذاكرته أيام حرب الجبل، تلك الحرب التي خاضها ضدّ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط: “كنت أتذكرها وأفكر، هل يمكن أن تموت؟”.
لمحة إنسانية ضاعفت الغضب، عوض أن تخمده. تماماً كما فعل حديثه عن حزنه على وفاة إيلي حبيقة وجورج حاوي. فمع كل هذه الإنسانية المتدفقة، بات يحق للمواطن اللبناني العادي أن يسأل: لماذا يحزن سمير جعجع على كل أولئك، ولا يحزن عليه؟ لم يقل لأي منهم أنا آسف لأني “تورطت”؟ كان يكفي لتصدّق أن جعجع تأثر بسير القديسين، أن تسمعه يقول لمن نجا من الأسرى الذين سلّمهم إلى اسرائيل: سامحوني، وقد جعلني الله أختبر معاناتكم نفسها (تراها كانت نفسها؟).
تقول خوري في حوار معها، إن هذا الفيلم جاء نتيجة لرغبة جعجع في تأريخ تلك المرحلة من حياته، عبر كتاب أو عبر فيلم. بالطبع يحق لجعجع أن تكون له رغباته الشخصية، ويمكنه الاستعانة بأصدقائه لتحقيق ذلك. لكن من دون أن يسبب لهم ضرراً يتناول مهنيتهم. كان يمكن إيجاد حل وسط بين رغبة جعجع الشخصية، والشروط الإعلامية الواجب توافرها... كأن تقوم خوري مثلاً باستضافة جعجع ضمن سلسلة مقابلات يمكنها أن تحمل عنوان “حوار العمر”، أو “ساعة صفا (مع جيزيل)”، أو... حتى “جيزيل شو”.