بيار أبي صعب
  • مات المسرح، يعيش المسرح... الفرنكوفوني

  • إنها مبارزة من نوع خاص في بيروت. ربيع مروّة في قبو كنيسة مار يوسف، وروجيه عسّاف في الطيونة. يتواجهان على خلفيّة “الفرنكوفونيّة”! تماماً كما في مسرحيات أيام زمان، حيث كانت لوحة ساذجة في عمق الخشبة، تقوم مقام الديكور

  • أهلاً بكم في أسبوع الرون بوان في بيروت: “المسرح مدينةً مفتوحة”. حكاية هذا الأسبوع الذي تشهده قاعات العاصمة اللبنانية حالياً، أن جان ــ ميشال ريب، مدير مسرح الـ “رون بوان” الباريسي، جاءته ذات يوم فكرة تصدير أعماله ونصوصه وإنتاجات مسرحه، بعد أن شبع منها الجمهور الفرنسي.
    دخل الى مكتب أوليفييه بوافر ــ دارفور، مدير وكالة Culture - France. نظر الرجلان جيداً الى خــــريطة العالم، احتارا قليلاً بين برلين وبرشلونة، لكن اختيارهما وقع على... بيروت.
    وكي يتخذ “التبادل الثقافي” شكلاً حضارياً متكافئاً بين طرفين متـــــساويين، كان لا بدّ من تقديم أعمــــال محلية. فسارع مسرحيون الى ارتجـــال عروض أو استعادة أعمال قديمـــة، كي يكونوا عند مستوى الحدث! هكذا شهدت بيــــروت، مـــساء الســــبت الماضي، مبــارزة غــــير مقصــــودة بين ربيــــع مروّة وأستــــاذه الــــسابق روجــــيه عســـّاف.
    ربيع مروّة قدم في قبو كنيسة مار يوسف (“مسرح مونو”) عرضاً بعنوان “المسرح وما وراءه” يقول ــ من وجهة نظره ونظر رفيقة دربه لينا الصانع (راجع لمحة عن محاضرتها في الإطار) ــ استحالة المسرح ولاجدواه. المسرح بخطابه البائد، وأدواته المستهلكة، ومفرداته السائدة، ومنظومة علاقاته القديمة. وفي مسرح “دوار الشمس” ــ الطيونة، بعده بساعة، قدّم روجيه عسّاف “بوابة فاطمة”، فيها يغرف ما تيسّر من تراث “مسرح الحكواتي”، وتقنياته المعهودة. كأنه يعطي مثالاً حياً عن تلك “القوالب الميتة” التي يسعى الثنائي مروّة ــ الصانع الى تجاوزها. وكأننا بعساف الذي تخطّت أعماله الأخيرة تلك الحقبة “الحكواتية”، فعل ذلك على عجل، قدم عملاً “من حواضر البيت”... غرف من رسائله الجميلة الى العالم خلال العدوان الإسرائيلي، مسكوناً بهمّ إيصال رسالة سياسية قوية. ولا شك في أنّه صدم، ليلة السبت الماضي، معظم أصدقائنا الطيبين، الآتين من باريس وفي ذهنهم صورة أخرى عن حقيقة الصراع. نعم إسرائيل معتدية. هنا بيت القصيد. الباقي تفاصيل! وسلامنا إلى الرئيس شيراك، وخصوصاً أن السفير الفرنسي في لبنان برنار إيمييه الذي يحضر كل العروض على ما يبدو، كان في الصالةقبل عام، دعت مجلة “زوايا” مجموعة من المبدعين والباحثين العرب، الى تقديم شهادات ومداخلات في مناسبة لقائها الأوّل. وأذهل ربيع مروّة الجمهور يومذاك بمداخلة ملتبسة لها شكل محاضرة، في حين أنّها عرض حقيقي. هذا العرض أعاد تقديمه السبت الماضي، وهو على شكل مانيفستو فكري وجمالي، معبّر عنه بعفويّة ماكرة، من خلال ملاحظات وخواطر وتأملات قديمة يدّعي مروّة (بين الإيهام والحقيقة خيط واه) أنّه دوّنها على دفاتره المختلفة، خلال حياته المهنية طالباً، ثم فناناً محترفاً. جاء حاملاً دفاتره، قرأ منها مقتطفات تعبّر عن نظرته الى المسرح الذي ينبغي أن نبتعد عنه قليلاً برأيه، أن نتفرج عليه من الخارج، من الهامش. فـ«الغياب هو في النهاية وعد بالعودة».
    يقرأ: «يا ربيع... ما بالك منشغل بالعمل على جسد الممثل، وأنت في بلد لا يعطي للفرد أبسط حقوقه كمواطن؟». وندخل معه في لعبة مشربكة، في خبيصة الدفاتر المرقّمة، قبل أن نكتشف أننا أمام ومضات من نصّ متماسك وديناميكي، يختصر تجربته الفريدة. وزاد من غرابة الموقف، أن ربيعاً قدم المحاضرة/ العرض بالفرنسية، هو «الأنغلوفوني» الراسخ. فجاء تلعثمه، وصراعه مع الكلمات، جزءاً من تلك اللعبة الغنية بالمفاجآت ومستويات القراءة
    هنا يتضح البعد «القسري» والقمعي لمشروع الـ«رون بوان». لقد نجحت الفرنكوفونية في إرغام ربيع على التكلم بالفرنسية! كان يمكن الاكتفاء بترجمة فورية، أليس كذلك؟ ربيع مروّة يقدم أحد عروضه النادرة في بيروتعظيم، لكن لأي جمهور؟ ومثله روجيه عسّاف الذي قدم «بوابة فاطمة» مع حنان الحاج علي وياسمينة طوبيا.
    كان عساف وصحبه على أتمّ الوعي بأنهم يقدمون فرجة لـ«الفرنسيس» والخواجات، فخاطبهم بلغتهم هو الذي يعرفها جيداً. مسرحيته رسالة سياسية الى شركائه الفرنسيين، وهذا مبرر وجودها. لو أنّه يقدم مسرحية لنا، لجمهوره، لكنّا أكثر تطلباً... لكن لا بأس من استعادة المجازر الإسرائيلية الأخيرة بلغة حكواتية، أمام شاشة فيديو تعرض صور الدمار، وتعرض عناصر بصرية من الحكايات التي جمعها عساف وصحبه من الناس. ولا بأس أن نجد (كالعادة)، في مقابل الحجّة المحجبة التي تلطم وتنوح، سيدة بورجوازية جسدها مكشوف وتتقن اللغات، وتمثل هذه المرة المنطق الإسرائيلي (المتغطرس).
    جاء عرض عساف، ليخلق توازناً صحياً بعد حفلة الافتتاح التي شكر فيها الفرنسيون بعضهم بعضاً. ممثل عمدة مدينة باريس (برتران دولانويه)، شكر أيضــــاً رئيس بلدية بيروت! المسكين لا يعرف حتى الفرق بين بلدية في فرنسا (الثقافة من مسؤولياتها الأســــاسية) وبلدية في لبــــنان. عبّــــر هـــذا الـــسيد عن سعادته بــــأن الــــصـــــــــالات ممتــــلئة بالجــــــمهـــــــور.
    التفتنا، فإذا بنا أمام جمهور فرنسي وفرنكوفوني من الذوات، إضافة إلى... عباس بيضون ! لنخرج إذاً من المسرح بسرعة، كما نصحنا، قبل ساعة، ربيع مروّة.