نور...
“إنهم مجرمون، متواطئون. لقد أوحوا أنهم يملكون معلومات مسبقة عن مقتل الوزير الجميّل... يجب محاسبة سمير جعجع ووليد جنبلاط”. هذه جملة منسوبة الى أحد “المواطنين” بثّتها قناة “الجزيرة” أول من أمس على منبر “الجزيرة”. ما الجديد في هذا الكلام، وسط “البازار” الاعلامي الفضائي المفتوح (طوال أيام الأسبوع وبلا استراحات حتى وقت الصلاة)؟
الجديد أن “حضرة المواطن” كان يتحدث من الإسكندرية. ليس لبنانياً مقيماً في “أم الدنيا”، لكنه مصري “أباً عن جد”. حسناً، الآن يجب إعادة قراءة تصريحه “الخطير” الى منبر “الجزيرة”، مع تغيير لفظ الجيم كي تلفظ كما يقولها الإخوة المصريون “غيم”. هل تتخيل كم “غيماً” في جميل وجعجع وجنبلاطلكن المشكلة ليست بالكلام أو اللفظ، بل بـ“المنبر” نفسه. لماذا قررت ليلى الشايب، مقدمة البرنامج، أن تسأل الاسكندراني رأيه في عقد جلسة الحكومة التي أقرّت إجراءات المحكمة الدولية؟ لماذا تهتم المذيعة برأي الإسكندراني، وفي مدينته ما يستحق السؤال عنه، وبالتالي الحصول على إجابة أكثر “دقة” و“موضوعية” وأقل “سوريالية” من المتصل، بوصفه يعيش هناك لا في الضاحية الجنوبية أو الطريق الجديدة على سبيل المثال!
كان المتصل “الجدع” يتمادى في “تحليلاته” لمستقبل لبنان “التي نريدها جميلة جداً (بالتأنيث المعتاد أيضاً) وبعيدة من المخطط الأمريكي والاسرائيلي للمنطقة”. في ذلك الوقت كان شريط الأخبار يعلن في أسفل الشاشة عن “تظاهرات في الاسكندرية بسبب أزمة وزير الثقافة مع الحجاب”. فرصة فوّتتها الشايب، ولم تسأل محدثها عن وجهة نظره في موقف الوزير!
لماذا تحمل إلينا الفضائيات العربية وجهات نظر الإخوة المشاهدين، في العالم العربي، في أدق تفاصيل المعادلة المعقدة في لبنان؟ غالب الظن أن اللبنانيين أنفسهم لا يفقهون كثيراً بما عليهم أن يتفوهوا به تعليقاً على ما يحدث في بلدهم، فكيف بالإخوة العرب، “المتصلين” بالمنبر الإعلامي؟
ها هو أحدهم من البحرين، يبارك للشيعة النسب الكبيرة التي حققوها في الانتخابات البرلمانية. ولا يتأخر عن “مبايعة الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله إمارة الإسلام”، معرّجاً على “صهيونية” قوى “الأكثرية”. متصل آخر من السعودية، سيسترسل في الحديث عن خطر الفرس الذين يغزون لبنان. سوري مقيم في باريس ــ ليس محمد زهير الصديق الذي يطل هذا المساء على شاشة “نيو تي في” ــ يطلب من أي لبناني متصل أن “يبخّر فمه قبل أن يتحدث عن النظام السوري”، ويطالب بعودة لبنان “الكيان المختلق الى سوريا”. يردد المتصلون بحماسة، ما يسمعون اللبنانيين يتراشقون به عبر الفضائيات ليلاً ونهاراً. يتابع المشاهدون مباراة “الأكثرية” و“المعارضة” التي لا تنفك الفضائيات تنقلها الى بيوتهم، فيلتقط صورها ابن الضاحية وصيدا وساحة ساسين، كما ابن قرية “المكس” شمال الاسكندرية وقرية غولو السودانية ومحافظة الحسكة في سوريا... هؤلاء، بعد ساعات من المشاهدة المستمرة للمباراة، سيشعرون بحق تلقائي في الإفتاء بآرائهم الخاصة في توصيف المتصارعين والتنبّؤ بمستقبلهم! إنهم يشعرون بحقهم في استخدام “نا” الجماعة، والصراخ على “منبر” كان الأجدى به أن يناقش قضايا عامة، تهمّ ابن غولو كما ساسين والضاحية، وبالدرجة نفسها. والقضايا العربية لحسن الحظ كثيرة: القهر والجوع والمرأة والتخلف والدين والجنس والعفاريت...
يستطيع مشاهد الفضائيات اليوم أن يردد جملة الممثل نهاد قلعي (حسني البرزان) الشهيرة في مسلسل، ولكن مع بعض التعديلات: “إذا أردت أن تعرف ماذا في لبنان، عليك أن تسأل ابن القاهرة أو الحسكة أو غولو”!