strong>رلى راشد
حبل السرّة لم ينقطع يوماً بين جوزيه ساراماغو و“أرض الخطيئة”. وها هو الكاتب البرتغالي، صاحب نوبل وصديق “الثورة الزاباتية”،
يعود الى مرتع الطفولة، ويتقاسم معنا “ذكرياته الصغيرة”، عبر سيرة ذاتية موجزة صدرت أخيراً في ليشبونة


بعد سنة على صدور روايته “انقطاع الموت”، قرّر جوزيه ساراماغو أن يأخذ استراحة من الأدب. هكذا أبصر النور العمل التاسع والثلاثون للروائي البُرتغالي المعروف، وإذا به سيرة ذاتيّة بعنوان “ذكريات صغيرة”، ليست ببعيدة عن الكتابة الروائية... بل تقف على شفاها.
في الرابعة والثمانين، علّق صاحب نوبل للآداب (1998) “معطف” الكاتب على مشجب الطفولة والمراهقة، واندسّ في ذلك العالم السحيق. عاد أعقابه بحثاً عن حكايات مطمورة، ليعيد قصّها علينا على سجيّته. والمعروف أن صاحب “العمى” لم يقطع حبل السرّة مع الولد الذي كانه، بل لطالما راودته فكرة نبش تجاربه المُؤسِسة... فإذا به في “ذكريات صغيرة” الصادر حديثاً عن دار “كامينهو” في لشبونة، يتلقّف الذكريات على فطريتها، مكتفياً بـ149 صفحة تقتنص أحداثاً محورية والتماعات، خارجاً بذلك على قالب السِيَر المُطوّلة.
فكر ساراماغو في “كتاب التجارب” كعنوان لسيرته، لكنّه بدا لا يلائم هدفه في استعادة ذكرياته بمنطق الطفل الذي كانه. في هذه السيرة، يطلق العنان للطفل جوزيه دي سوسا (لقب العائلة)، ليعيد تشييد منازل الطفولة البيضاء ويحيي أشجار الزيتون في ازينهاغا، قريته الأم وسط البُرتغال. تلك الأشجار التي أصرّ جدّه جيرونيمو أن يودّعها قبل توجهه الى العاصمة حيث فارق الحياة. يلعب هنا جيرونيمو الأميّ، والمقلّ في الكلام، دوراً محورياً لا ينحصر في إطالة إحساس ساراماغو “بأنه لا يزال حفيداً فيما أمسى جَدّاً. هذا الرجل، ببساطة، هو الذي أعطى ساراماغو مفاتيح التمييز بين الحكمة والثقافة.
جوزيه ساراماغو يأخذ القارئ بيده، على دروب تلك القرية المسكونة بهواجس الطفل المحب للعزلة، والميال الى بدائية يلامسها عند مفترقات الأزقّة التي يتسكّع فيها حافي القدمين. تعيدنا السيرة الى نمط عيش لا يعرفه سوى أهل الهامش المنسيين في أسفل الهرم الاجتماعي... فلاحو الأرياف، وأبناء المحرومين “في أدغال المدن” إذا جازت استعارة عنوان مسرحية بريخت الشهيرة. ينقل لنا تلك المناخات من دون الإسراف في المتاجرة بالبؤس. في “ذكريات صغيرة” إنشاء حِرَفِيّ يتفادى تمرين الأسلوب، ليسأل عن واقعيّة الذكريات وعن دورها في تكوين الشخصيّة. يتخطّى الكاتب الأحداث بالمعنى “التسجيلي”، ويتجاوز مطبات التأويل والنسيان، يعود الى ماضيه كمن يتحدّى نفسه، ويمتحن قدرته على تجنّب فخ تصنيم الماضي ورفعه إلى مصاف الأيقونة.
قراءة “الذكريات الصغيرة” تُشبع فضولنا الى معرفة مسار الكاتب، في تحوّله من الولد الريفي الى الشخصيّة الأدبية البارزة التي نعرفها اليوم. لكن ساراماغو يستسلم هنا، مرّة أخرى، لنظرته السوداوية الى الوجود. بين القرية والعاصمة وسنوات الفقر المُدقع التي يطبعها موت الأخ المُبكر، لا يزال العالم “جَحيماً يولد فيه الملايين ليتعذّبوا”. إنها تجارب مُستلّة من ذاكرة “مُترفّعة” عن التجميل باسم التخيّل السياسي أو التاريخي.
“ذكريات صغيرة” شريط صور يعبر مُتقطعاً بين القرية المنذورة لنهر التاج، حيث يمضي ساراماغو عطلاته المدرسية، ولشبونة موطىء قدم العائلة المهاجرة. غزيرة هي الذكريات البريئة في تلك الأرض: الساحة والصيد والنهر. وهناك أيضاً ذكريات عن النظام القمعي في عهد سالازار، رئيس الوزراء البرتغالي آنذاك الذي كان يجبر الطلّاب على ارتداء زيّ “الشبيبة البرتغالية”. في هذه الجغرافيا، يبدو ساراماغو مرصوداً لقدر سيجعله فلاحاً، أو ربما شرطيّاً، مثل والده الذي يُقحمه ساراماغو في السيرة. تتركز أمور شتى على هذا الرجل الخاضع للسائد، فيما يدور الباقون في فلكه. ويبدو الفقراء، في العشرينيات والثلاثينيات، كتلة خانعة لا تُغريها الثورة! تغيب السياسة عن “ذكريات صغيرة”، كما غابت عن منزل ساراماغو العائلي في تلك الحقبة: “كنا نسأل عن العائلة والطقس، وأين وضعت الأحذية... وعن ملوحة الحساء!”.
إلا ان فصل الشأن العام عن مسار ساراماغو الأدبي محاولة خاسرة. إذ حدته التحولات السياسية على التخلّي عن الدراسة في الـ 16 ، ودفعته الى الكتابة... فكانت باكورته “أرض الخطيئة”. وكرّت بعدها سبحة الأعمال التي قامت على مواقف “تخريبية” للوضع القائم. وقد رافقت رائحة الفضيحة روايته “الإنجيل يتلوه المسيح” (1991) فانتقل للإقامة في جزيرة لانزاروتي، اقرب جزر الكناري إلى الطقوس الشرقيّة. في تلك السيرة المُتخيّلة، يتصوّر المسيح وقد استخدمه الله لفرض سيطرته على العالم. ومن خلال تلك المقاربة، يطرح مسألتين لن تفارقا أدبه: الحريّة والثورة.
لقد وفى ساراماغو بالوعد الذي قطعه على نفسه. إذ صار “أكثر حرية وراديكالية” كلما طعن بالسن، خصوصاً في روايته المسيّسة “التبصّر” التي احتفت باريس أخيراً بنقلها الى الفرنسية. وعلى الرغم من انسحابه من البُرتغال، لم ينعزل ساراماغو ــ صديق «الثورة الزاباتية» ــ عن العالم. كل شهر أو شهرين، يحزم أمتعته ويبحر للترويج لكتاب أو إلقاء محاضرة سياسية. وهو، حتى الثالث من كانون الأول المقبل ضيف الشرف في «المعرض الدولي للكتاب» في غوادالاهارا المكسيكيّة.
وتجدر الإشارة الى أن سيرة ساراماغو الذاتيّة، تصدر بعد أشهر على الزوبعة التي أثارتها سيرة زميله الألماني غونتر غراس “أثناء تقشير البصل”... وفيها يكشف النقاب عن انخراطه في الوحدات النازية الخاصة خلال مراهقته. وفي أوج الحملة الشرسة التي شُنّت على غراس، وقف ساراماغو مدافعاً عن شريكه في حرفة الأدب، وفي الالتزام السياسي وجائزة نوبل، واصفاً منتقديه بالخُبثاء. وكان الروائي البرتغالي فرغ لتوّه، يومذاك، من كتابة سيرته “ذكريات صغيرة”، مسرّباً بين الكلمات إضاءات جديدة على ذلك الكاتب المُشكّك والمنتفض والمزعج الذي نعرفه اليوم.