strong>توفيق المديني
الإصلاحات التي طرحها الحبيب بورقيبة قبل نصف قرن، ما زالت حتى اليوم موضع نقاش في العالمين العربي والإسلامي. عودة الى العلاقة المضطربة بين المؤسسة الدينية والأب الروحي للمجتمع التونسي الحديث

الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، لم يكن سياسياً عادياً في جمعه بين بعد النظر السياسي والهم الإصلاحي.وفي كتابه الجديد “بورقيبة والإسلام” الصادر عن “دار الجنوب” (تونس)، يركّز الكاتب والصحافي لطفي حجي على معالجة بورقيبة القضايا الإسلامية. يرى الكاتب أنّ قوة بورقيبة كمنت في خوضه المعارك التي لم يجرؤ أحد على مقاربتها. جرؤ على ثوابت الفكر الإسلامي، ولم يقف بوجه منهجه الإصلاحي أي حصن، وكان ذلك لمصلحة القضاء والتعليم وحقوق المرأة. علماً أن القضايا التي طرحها بورقيبة منذ قرابة نصف قرن، ما زالت حتى اليوم محل نقاش في الدول الاسلامية، بل أصبحت محور نقاش عالمي بعد أحداث 11 أيلول.
أسّس الحبيب بورقيبة النظام الجمهوري عام 1957، دافعاً بتونس إلى مرحلة بناء جهاز دولة عصري، عبر تدعيم المؤسسات. وتُرجم ذلك من خلال إصدار دستور جديد عام 1958، اتسم بقدر مقبول من “الليبرالية”. إذ حدّد انتخاب رئيس الجمهورية مرة كل خمس سنوات. وهكذا صدر قانون جديد للأحوال الشخصية اعتبر مكسباً للمرأة لا مثيل له في العالم العربي، متأثراً بالتعاليم التنويريّة للطاهر حدّاد صاحب كتاب “المرأة في الشريعة والدين”. حدد سن الزواج القانونية بـ 17 سنة، وأقر الإجهاض، ونصّ على أن الطلاق لا يتم إلا أمام المحاكم، وعدّل من قوانين الإرث المستمدة من الشريعة الاسلامية لمصلحة المرأة، وحدد الزواج بامرأة واحدة لا أكثر. وفتح الجامعة التونسية تحت راية “علمنة التعليم”، وحدّ من دور جامع الزيتونة الذي كان تأثيره تجاوز الحدود الوطنية الى العالم الإسلامي.
هذه النزعة الحداثية التي قامت عليها “الخصوصية التونسيّة”، ارتبطت بشخصية بورقيبة الكاريزماتية. وهي ناجمة بالدرجة الأولى من احتكاكه بالحداثة الأوروبية وتأثره بها، وترتكز في الوقت عينه على فلسفة وطنيّة وتاريخية وحضارية. هكذا جعل العلمانية أحد مكونات الحياة السياسية في تونس. إلا ان العلمنة الراديكالية لنظام التعليم، اصطدمت بمقاومة المؤسسة التعليمية الدينية التي ظلّت عاجزة عن مواكبة تطور العصر، رافضةً إدخال إصلاحات تنسجم مع منطق التطور الذي شهده المجتمع التونسي.
صفّى بورقيبة البنية التحتية الاقتصادية للمؤسسة الاسلامية التقليدية من خلال إلغاء مؤسسة الحبس والأوقاف. واتخذ قرارات جذرية مثل إعلان مجلة الأحوال الشخصية للمرأة التي تنظم مسائل الزواج الهادفة الى تحرير المرأة التونسية، وكسب ولائها سياسياً. وذلك على اعتبار أنّ سنّ هذه القوانين التشريعية الجديدة، كما قال بورقيبة، كان تعبيراً “عن ضرورة التكيف مع متطلبات الحياة المعاصرة، وتسيير شؤون الحياة، وفق المنطق الجديد الذي لا يعد منطقاً متناقضاً مع روح الإسلام”. ونشر النموذج التحديثي للنخبة السياسية ــ الإدارية الحاكمة التي تسيّرها الرؤية الإصلاحية الراديكالية للفئات الوسطى.
وتلك “الجذريّة البورجوازية” جعلت النخبة السياسية ــ الإدارية الجديدة تركز في خطابها على أهمية تحديث التعليم، والاستغناء عن “الزيتونة”. هكذا، حُوّلت الجامعة الدينية المتجذرة في المجتمع التونسي إلى كلية للشريعة وأصول الدين، من الطراز الحديث، وخضعت في مناهجها وبرامجها لخط الدولة التحديثي، بهدف إقصائها عن المشاركة السياسية والثقافية.
لكن هذه النزعة الإصلاحية والبراغماتية للدولة التونسية الجديدة، يلاحظ لطفي حجي في كتابه “بورقيبة والإسلام”، جعلتها تتحول إلى جهاز للهيمنة. فمشروع التحديث والعلمنة أخضع مؤسسات المجتمع التقليدي القديم لبرنامجه السياسي والاقتصادي والثقافي، ما جعل الدولة تتحول أداةً للتعبئة الوطنية ومؤسسة إرسالية للتحديث، ومرجعاً للإسلام الجديد كما تفهمه الإيديولوجيا القومية، في مواجهة الإسلام السلفي والأصولية الدينية.
هنا يرى الكاتب أنّ المشروع التحديثي الذي أطلقته دولة الوصاية البورقيبية على المجتمع المدني، جاء في سياق خيار إيديولوجي تغريبي، تبنى الفرنكوفونية وشعار اللحاق بالغرب الرأسمالي، ما عمّق التبعية الثقافية للغرب الرأسمالي، وجسّد القطيعة الفجة بين السياسي والديني، بعدما هُمّشت المؤسسة الدينية التقليدية، وعُزلت نخبتها الثقافية. كان لهذا أثره الكبير في تفجير الصراع بين السلطة الجديدة والمؤسسات التقليدية الدينية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وتجذر الصراع بين السلطة والحركة الإسلامية، حين تعمقت أزمة الهوية للمجتمع والشباب على نطاق واسع في تونس.
في الواقع، يعود الصراع بين السياسي والديني إلى ثنائية ازدادت ثقلاً بين الدستوريين والزيتونيين، منذ مرحلة الاستعمار. وهو يعكس صراعاً أيديولوجياً وسياسياً بين الحزب الدستوري الجديد بقيادة بورقيبة الذي اضطلع بدور قيادي للحركة الوطنية التونسية في مقاومة الاستعمار الغربي، وبين الحزب الدستوري القديم بقيادة الشيخ عبد العزيز الثعالبي. هذا الأخير كانت تسانده المؤسسة الدينية التقليدية التي كانت متحالفة تاريخياً مع البورجوازية التجارية التقليدية، بحكم التجانس في الانتماء إلى الفضاء الأيديولوجي التقليدي.
ومن المعلوم تاريخياً أن الحركة السياسية التونسية، لم تكن حركة تحرر سياسي فحسب، بل كانت تملك برنامجاً خاصاً في المجالين الثقافي والاجتماعي. وكانت مستندة في ذلك إلى تراث الحركة الإصلاحية التحديثية في تونس، منذ عهد خير الدين التونسي، ورائد تحرير المرأة العربية التونسية الطاهر الحداد الذي جوبه بعداء شديد من المؤسسة الزيتونية التقليدية، ومن الفئات المحافظة في المجتمع التقليدي.