بغداد ــ سعد هادي
دخل الاحتلال الأميركي للعراق عامه الرابع، ولم نقرأ حتى الآن رواية واحدة طالعة من البلد الجريح الذي يعيش أبرز روائييه في المنفى منذ عقود.
كيف ولماذا سكت الروائيون العراقيون في قلب الدوامة؟

كأن الزلزال الذي أصاب الحياة في العراق بعد الاحتلال الأميركي وقع في مكان آخر. ثلاث سنوات ونيّف لم تكف لظهور روايات تتناول الراهن المأسوي. تُرى ما الذي يمنع الروائيين العراقيين من الكتابة عن واقع يحفل بالتناقضات والصراعات؟
إنّ تاريخ الرواية الحديثة في العراق لا يعود إلى أبعد من عام 1967 عندما صدرت “النخلة والجيران” لغائب طعمة فرمان (عاش في موسكو حتى وفاته أواخر عام 1990). أما ما سبقها من تجارب في الثلاثينيات والأربعينيات لمحمود أحمد السيد وعبد الحق فاضل وذنون أيوب وسواهم، فليست سوى محاولات يختلط فيها السرد بالخطابة والمقالة، ويصل بمشقة إلى مشارف الرواية من دون اختراق عوالمها. في ستينيات القرن المنصرم وسبعينياته، ظهرت محاولات روائية جديدة اختلفت عن المنهج الواقعي الصارم لفرمان، وكلاسيكيته المتأثرة بمدرسة الأدب الروسي في القرن 19. استندت تلك المحاولات إلى التجريب، ونهلت من الشعر وحقول الكتابة غير السردية، ومن الفنون البصريةولعل أبرزها تجربة فاضل العزاوي في “مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة”. بينما تواصلت التجارب الواقعية، مع خروج محسوب عن القواعد الروائية التقليدية والإفادة من الرواية الحديثة في العالم. نشير إلى روايات مثل: “الضامئون” لعبد الرزاق المطلبي، و“ضباب في الظهيرة” لبرهان الخطيب، و“الهشيم” لجهاد مجيد، و“المبعدون” لهشام توفيق الركابي.
بدأ المشهد الروائي في ثمانينيات القرن المنصرم يتسع داخل العراق وخارجه، واضطر كُتّاب الداخل إما الى الانصياع لمتطلبات الخطاب الإعلامي للدولة وماكينتها الدعائية، أو اللجوء إلى ثيمات روائية لا تستفزها. حدث ذلك في ظل حرب مدمرة دامت ثمانية أعوام وفي مناخ بوليسي وإجراءات قمعية قد لا تتكرر في مكان وزمان آخرين. كان أمام الروائي طريقان: إما الكتابة عن إنجازات الثورة وقائدها... أو العودة إلى التاريخ والأسطورة ليبتكر عوالم خيالية تساعده على الإفلات من قبضة الرقيب. هكذا راح الكاتب يواري عناصر تجربته بمنهج الواقعية السحرية الذي كان حلاً مناسباً لتجريد الرواية من خصائصها الزمانية والمكانية، وإنتاج نصوص هلامية لا يمكن الإمساك بها ولا محاسبة كتّابها على غايات يضمرونها في ذواتهم (مثل الكاتب عبد الخالق الركابي في “الراووق”). كان الابتعاد عن الواقع حلاً لمصلحة رؤى شعرية غامضة بلا جذور استخدمت للتمويه فحسب، وقد يفسر لنا ذلك طغيان الشعر كوسيلة للتعبير مقابل اضمحلال طرق الكتابة ووسائلها الأخرى.
أما كتّاب العراق في الخارج، فحاولوا استعادة الواقع العراقي عبر ما تبقى في ذاكرتهم، أو عبر مراقبتهم لما يجري عن بعد. في هذا السياق نشير إلى جنان جاسم في “يا كوكتي”، وإلى نجم والي في “ الحرب في حي الطرب”، وإبراهيم أحمد في “طفل الـ CNN”، فاضل العزاوي في “الأسلاف”، ميسلون هادي في “الحدود البرية”، بتول الخضيري في “كم بدت السماء قريبة”، زهير الجزائري في “الخائف والمخيف”، هيفاء زنكنه في “نساء على سفر”.
كما صدرت روايات أخرى لكتّاب من جيل الخمسينيات، أدوا دوراً ريادياً في القصة القصيرة مثل فؤاد التكرلي الذي ترك العراق في منتصف التسعينيات إلى تونس، ثم إلى دمشق. نذكر منها “الرجع البعيد” و“خاتم الرمل” و“المسرات والأوجاع”. كما واصل غائب طعمة فرمان كتابة رواياته من موسكو، عن بلد لم يره سوى مرة واحدة خلال ربع قرن، فأصدر “خمسة أصوات” و“المخاض” و“ظلال على النافذة” و“المركب”.
تلك هي الخطوط الأساسية لواقع الرواية العراقية. ويفسّر تأمل حركتها سبب عجز الكاتب العراقي عن مقاربة الحدث الأخطر في تاريخ بلاده. فالرواية في العراق حديثة نسبياً لا تقاليد لها، وهذا ما يجعلها تعبر عن رؤى فردية لا عن مشاريع واضحة المعالم. كتابها إما يستعيدون الماضي بحنين مرضي أو ينهمكون بالتاريخ بمزاج شعري أو يكتبون عن بعد، بتفاصيل مجتزأة، عن واقع ضاج تتبدل معالمه بسرعة. وكان الروائي في الداخل أشبه بموظف حكومي، وقد تبرأ كثيرون الآن من نصوص كتبوها في عهد صدام حسين. لنقل أيضاً إن وجود جهات حكومية للنشر تطبع كل ما لا يتعارض مع أهدافها، حوّل الكاتب إلى تابع كسول لا يعنى بتطوير مهاراته، ولا يطمح إلى إقامة حوار مع القارئ. وها هي النزعات الطائفية والعرقية والإقليمية تجعل الكاتب يعيد النظر في قناعاته السابقة، كاشفاً هشاشة ثقافته وضعف مواقفه.
لقد أعطت النزعة التجريدية التي كانت تسود في روايات ما قبل الاحتلال، مبرراً لإعادة تفسير بعض الأعمال في ضوء الحاضر: أحمد خلف رأى أن روايته «موت الأب» (2003) نبوءة عن سقوط صدام، في حين عدَّ عيسى مهدي الصقر روايته «الشاهدة والزنجي» (1987) التي تدور أحداثها في مدينة تشبه البصرة، في ظل احتلال أميركي استشرافاً لما حدث بعد 20 عاماً. كما قيل الكثير عن أن «الوليمة العارية» (2005) لعلي بدر، توطئة لما يجرى في العراق مقارنة بما جرى في الأيام السابقة للاحتلال البريطاني عام 1917.
إن الواقع الحالي في العراق وسط دوامة العنف والتحولات المفاجئة وظلامية القوى المتحكمة يمنح أي كاتب مادة غنية، لا حدود لقيمتها. لكنه لا يمنحه فرصة للتأمل ولا للمقارنة... فكيف بالأحرى الكتابة؟