بيار أبي صعب
«خمسون» عنوان آخر مسرحيات الثنائي التونسي
الفاضل الجعايبي ـ جليلة بكّار، صفق لها الجمهور الفرنسي في الربيع الماضي، وتستضيفها بيروت قريباً. لماذا لا تزال الأبواب موصدة بوجهها في تونس؟


فنانو تونس الذين يلتقون اليوم في “التياترو” تضامناً مع الفاضل الجعايبي، أحد أبرز مبدعي المسرح في العالم العربي، يدخلون ربّما مرحلة جديدة في المواجهة مع السلطة السياسية، متمثلة بوزارة الثقافة. ولعلها الخطوة الأولى في مشروع التصدي لخطر الانحطاط الذي يحاصرهم منذ سنوات عدّة. “أي مستقبل لحرية الابداع المسرحي في تونس؟”، هذا هو الشعار الذي يجمع ــ في ضيافة توفيق الجبالي ــ مخرجين وممثلين وكتّاباً وتقنيين من مختلف الأجيال، جاؤوا يعلنون حيرتهم ونفاد صبرهم من حالة التردي غير المعلنة التي تنزلق إليها، يوماً بعد آخر، الحياة الثقافية. وفن المسرح تحديداً، يبدو الأكثر تعرضاً لهذا الانحسار منذ سنوات، بصفته بوصلة أمينة للوضع الاجتماعي والفكري العام الذي طالما نجح في التعبير عنه واختزاله، في بلد علي بن عيّاد، منذ ستينيات القرن الماضي.
يتحلق أهل المسرح التونسي اليوم، حول الفاضل الجعايبي وجليلة وبكار والحبيب بلهادي، ونفر من الممثلين الاستثنائيين بينهم فاطمة بن سعيدان ومعز مرابط وجمال مداني... طالبين من وزير الثقافة محمد العزيز بن عاشور، السماح الفوري وغير المشروط بعرض “خمسون”، آخر انتاجات “فاميليا”. المسرحية التي كتبت نصها جليلة بكار، وتعتبر مفترق طرق في مسيرة الجعايبي الاخراجية، صفق لها الجمهور الباريسي في مسرح “الأوديون”، وستعرض قريباً في بيروت، لكن كل الأبواب ظلت موصدة بوجهها في بلدها تونس. وهذه سابقة خطيرة لم يعرفها المسرح التونسي على امتداد عقود من الازدهار والانتشار أدى خلالها دور المختبر الطليعي على المستوى العربي مشرقاً ومغرباً. طالما نعم هذا المسرح بمناخ من الحرية ــ على رغم دعم الدولة له ــ ما فتح طريق التمايز الجمالي أمام حفنة من المخرجين والممثلين أبرزهم رجاء بن عمار وتوفيق الجبالي وعز الدين غنون ومحمد إدريس، والراحل رشاد المناعي، وطبعاً فرقة “المسرح الجديد” الأسطورية التي أفرزت تجربة الجعايبي بعد انفصاله عن الفاضل الجزيري...
“خمسون” التي صممت نوال اسكندراني رقصاتها، ووضع قيس رستم تصوّرها السينوغرافي، مسرحية ناضجة فنياً، جريئة ونزيهة وموزونة فكرياً وجمالياً، تتطرق الى موضوع الارهاب الذي يتهدد مجتمعاتنا الواقفة على حافة بركان... من خلال مواجهة بين أم خمسينية تنتمي الى القيم الديموقراطية والعلمانية والتقدمية، وابنتها التي سافرت الى باريس للدراسة فعادت محجّبة و... اسلامية! الأم وريثة الجمهورية العصرية التي بناها الحبيب بورقيبة، علماً أنها ذاقت طعم سجونها، هي وزوجها، كمناضلين يساريين. والابنة ليست سوى نتاج زمن الفوضى والانهيارات وفقدان اليقين، والخوف من الآخر، زمن الفساد والعجز السياسي والخيارات الراديكالية و«الانتحارية». هذا الشرخ غاص فيه الثنائي بكّار ــ الجعايبي، بحثاً عن الجراح الدفينة الكامنة في أعماق مجتمع مأزوم. وإذا كان خطاب المسرحية تنويرياً، فهي لا تمالئ النظرة الغربية الاختزالية للصراع، بل تذهب بكثير من التواضع والاحترام في اتجاه «الطروحات الاسلامية» لفهمها ومناقشتها الهادئة. بالحوار والمحاججة تواجه الأم الغاضبة ابنتها وصديقات ابنتها... بالآيات القرآنية ترد عليهنّ، وبأبيات من الشعر الصوفي، مذكّرة معاصريها أن الاسلام دين العقل والاجتهاد، لا دين التحجّر والتزمّت والعنف كما يروج له الخطاب الظلامي وتتبناه الجماعات المقهورة.
والغريب في الموضوع أن لجنة التوجيه المسرحي التي لم تحل يوماً دون عرض مسرحية جيدة في تونس مهما كانت اشكالية، رفعت تقريراً عبثياً يطالب الجعايبي ورفاقه بحذف أسماء العلم من أشخاص ومدن وتواريخ، وبعدم استعمال آيات قرآنية. فرد المسرحي البارز بكتاب مطوّل الى وزير الثقافة، لا بد من حفظه في أرشيف المسرح التونسي، كوثيقة عن زمن ضاعت فيه المعايير واختلطت المفاهيم... نادراً ما يلتقي أهل المسرح التونسي في ما بينهم، ولا شك في أن لقاءهم اليوم “تاريخي” على أكثر من صعيد.