بيار أبي صعب
في هذا البلد الذي كان ذات يوم يشبه المسرح الرحباني الى حدّ بعيد، بلد «الكذبة» (الجميلة) التي «صارت زلمة»، كما كذبة راجح في «بياع الخواتم»، تكتسي عودة فيروز (المجهضة) الى خشبة المسرح بعداً رمزياً على أكثر من صعيد. كأن التصميم الإسرائيلي على التدمير المنهجي للبلد، بدأ بـ«حجب» المرأة الرمز، غربة ابنة «مدلج اللي مات عالبوابة»، وإحدى آخر أيقونات لبنان القديم. وطن الأوبريت، بملامحه الساذجة التي كانت تخبئ، في الواقع، أدغالاً من الفساد والطائفية الموروثة من عهود الاقطاع.
وعودة فيروز (المؤجلة)، في مسرحية تكاد تختزل كل عناصر الأوبريت الرحبانية، ليست فقط مناسبة للحنين، ولإعادة النظر بهذا الوطن وأهله وأحزابه ومشاريعه السياسية ومستقبله. إنها ربّما فرصة أخيرة لمشاهدة فيروز الرحبانية على الخشبة، في لقاء مستعاد مع زياد، الإبن الرهيب للمؤسسة الرحبانية، وريثها الشرعي ومقوّض أساساتها في آن. الفنان المشاكس الذي اختطف فيروز من «بحبك يا لبنان» الى «هدير البوسطة»، «تطهّر» (بالمعنى الإغريقي القديم) من التراث الرحباني عبر تفكيكه وانتقاده والسخرية منه أولاً. ثم عبر إعادة صياغته بأدواته الخاصة: بدءاً بإعادة توزيع أشهر الأغنيات وأجملها... وانتهاءً بالمسرح.
«صح النوم» هي النموذج الأساسي الذي استوحى منه زياد مسرحيته «شي فاشل» (1983)، ساخراً من خطاب تغريبي يكاد يكون «خميرة» المعادلة الرحبانية. وتلك العلاقة الصدامية، لم تمنعه صيف 2006 من العودة الى العمل نفسه، كي ينفض عنه غبار الزمن. لا بد من مشاهدة التجربة الجديدة قبل الحكم عليها. لكن فيروز ستكون كالعادة وفيّة لصورتها وأسطورتها: إمرأة مجردة ، خارج الزمن، مثل معظم شخصياتها على المسرح، كما يبيّن فواز طرابلسي في كتاب مرجعي بعنوان «فيروز والرحابنة ـ مسرح الغريب والكنز والأعجوبة» (رياض الريّس ـ 2006).
إنها «الواسطة» كما يكتب طرابلسي، مستشهداً بأنسي الحاج، صوت الطفولة والوعد والحلم والانتظار و.... «الحرية». و«الرسولة» (بشعرها الطويل حتى الينابيع) التي نذرها أهلها «للشمس والطرقات»، سيطلع صوتها قريباً من ركام بلد ما يزال أهله منقسمين كما في الأوبريت الرحبانية. ستعبر الوقت بحياد الآلهة، من زمن عبد الناصر إلى «الشرق الأوسط الجديد»، عساها توحّد أهل القرية المتخاصمين مرّة أخيرة. لكن حتى «ملوك الجان» لم يعد بوسعهم «إعادة المياه الى مجاريها». إنها نهاية مرحلة.