ليلى دندشي
تشهد طرابلس خلال شهر رمضان عودة الأهالي إلى قلب المدينة القديمة وحاراتها الشعبية، يشعر المتابع لحركتهم أن حنيناً إلى الماضي يجذبهم الى تلك الأحياء والزواريب والحارات التي عاش فيها آباؤهم وأجدادهم، علّهم في ذلك الجمع المتدفق يستحضرون شيئاً من ذاكرة تكاد ان تمحى.
يكرر أبناء عاصمة الشمال أن الأمسيات الرمضانية في المدينة القديمة لها رونقها. فالمدينة لم تكن تنام في شهر الصيام وأبواب المحال والمؤسسات التجارية لا تُغلق منذ اليوم الأول وحتى صبيحة العيد، يتوافد الناس إليها من كل منطقة شمالية للتزود بالحاجيات، وتزدحم الأسواق الشعبية في تلك الأمسيات حتى يتعذر على الجميع التنقل بيسر وتزداد الزحمة بشكل خاص في أواخر رمضان.
ولعل مشهد المقاهي الشعبية في منطقة الحدادين (جبل النار) عند البوابة الجنوبية للمدينة القديمة خير دليل على ما صار يسمى “العودة الجماعية الى الجذور”، إذ يلتقي في هذه المقاهي الشعبية أبناء المدينة من كل الأعمار والفئات. ومع النارجيلة ولعبة الورق تدور الأحاديث عن أيام زمان.
في مقهى موسى الذي غلب اسمه على مقاهي المنطقة، كان سكان طرابلس يتحلّقون في نصف دائرة حول الحكواتي في الأمسيات الرمضانية يسرد عليهم روايات عنترة وعبلة والزير سالم وأبي زيد الهلالي، متربّعاً على كرسيه العالي أمام طاولة في صدر المقهى. كان الرجل وهو يسترسل في السرد يلوّح بسيفه أو بخيزرانه كلما اشتد القتال بين عنترة وخصومه، وينخفض صوته كلما أتى على ذكر الحبيبة عبلة، وذلك بقصد أن يتلاعب بالأعصاب والنفوس. كانت صيحات الاستياء والغضب تعلو عندما يتوقف عن سرد روايته عند مفصل مهم أو حدث مشوّق ليضمن عودة سامعيه إليه في الليلة الثانية.
وفي مقهى آخر كانت تُروى حكايات من نوع آخر بطلها الكراكيزي الذي يدير شخصيات روايته وراء شاشة تظهر خيالاتها بفعل ضوء خلفي أشبه بألعاب الدمى. وذلك قبل عصر السينما، وغالباً ما كان بطلا هذه الروايات كريكوز وعيواظ يتناقشان ويتحاوران ويتخاصمان على قضية معينة تهمّ سكان المدينة ومشاكلها اليومية، ويشتد اهتمام زوار المقهى اذا كانت القصة تتعلق بشخصية الوالي العثماني وعساكره.
هنا على كراسيهم البلاستيكية التي حلّت بدل تلك المصنوعة من القش يتعرف أبناء الجيل الشاب بماضي المدينة ويمتد بهم السهر حتى ساعات الفجر الأولى، ولا ينقطع توافد الزوار الذين يقصدون الأفران المجاورة لشراء الكعك الطرابلسي بالسمسم ويتزوّدون بالجبنة البلدية قبل العودة الى منازلهم ليتناولوها عند السحور بدل “البرازق” التي كانت تباع في السلال وهي على أنواع منها تلك المصنوعة من الطحين والحليب وأخرى يتم إعدادها بالحلاوة الطحينية، وكذلك بدل خبز رمضان بحبات البركة الذي يصنع خصيصاً في هذا الشهر. وتعوض بعض المقاهي اليوم عن غياب حكواتي أيام زمان بفرق غناء يردد مطربها أغنيات كارم محمود ومحرم فؤاد وسيد مكاوي، وتستضيف بعض المقاهي عروض راقصين يقدمون رقصات بلدية وقديمة.