هدى ابراهيم
“أنا التي تحمل الزهور الى قبرها” فيلم يصعب تصنيفه، أخرجته السينمائية السورية هالة العبدالله بمساعدة المخرج الشاب عمار البيك. الفيلم الذي يعرض للمرة الثانية هذا المساء في بيروت، ضمن إطار «المهرجان الدولي للأفلام» (العاشرة ليلاً، صالة سوفيل 2)، عبارة عن ثائقي صور بالأسود والأبيض، صفّق له النّقاد والجمهور في “مهرجان البندقية” السينمائي الأخير، حيث عرض ضمن تظاهرة “أوريزونتي” وفاز بجائزة “اتحاد السينمائيين الإيطاليين للفيلم الوثائقيأنا التي تحمل الزهور الى قبرها” شريط خاص بكل المقاييس. فهو يأتي من تجربة مختلفة إنتاجياً أولاً. إذ أنجز بكلفة بسيطة، وبدا أقرب الى المغامرة التي اكتملت ونضجت ووصلت الى الجمهور، من دون تدخل أي جهة انتاجية. لقد تعاطى المخرجان مع موضوعهما بحرية مطلقة، وهذا نادر في السينما العربية الراهنة، وإذا بالثنائي هالة عبد الله وعمار البيك يقدمان فيلماً حميماً يحفل بالأحاسيس والتلميحات الدفينة وبقايا الصور المبتعدة في ضباب الوقت. الشريط مسكون بنثار ذاكرة موزعة بين ماض لا يمضي، وحاضر مسكون بهاجس الوطن. هذا الحاضر مرتبط بتجربة امرأة محددة، لكنّ صديقاتها هنّ اللواتي يعبّرن عنه باسمها.
من تجربة السجن مروراً بالأمومة، وصولاً الى الإبداع والكتابة والتصوير، تنتقل العبارة وتأتي الصورة لتجمع حكايات تناثرت طويلاً بين الأمكنة، قبل أن تلتقط الكاميرا معالمها وتصهرها في سياق متفرد. ويثير الشريط بين مواضيعه الكثيرة أزمة الرغبة في إنجاز شيء لا ينجز، في هذا العمر الذي يمر سريعاً كضوء عابر. عمر تخترقه أحزان الحرية المفتقدة، أكثر كل يوم، في مناخ من الصمت المطبق. تكفي النظرة المتأثرة، الابتسامة المرتبكة التي تلتقطها الكاميرا لترسم صورة الحياة المصنوعة من ماض وحاضر متشابكين، على دروب تتقاطع بين المنفى والوطن.
تقودنا هالة العبد الله في دهاليز ذاكرة صاخبة سكنتها طوال سنوات غربتها الباريسية، وصولاً الى صور المكان الأول. “أنا التي تحمل الزهور الى قبرها” يأخذ المشاهد الى عوالم داخلية، حافلة بعبارات توحي بالشيء ولا تقوله. تتحول الصورة الى إطار لاحتواء الأجواء الشاعرية التي يصنعها الشريط. وتهيمن عليه روح الشاعرة السورية الراحلة دعد حداد التي أُخذ عنوان الفيلم من إحدى قصائدها. “أنا” المخرجة تتماهى مع “أنا” الأخريات... الصديقات في لعبة مرايا متكسرة، تتشعب وتطفح بحالات وجودية وموضوعات متوازية الخيوط. حكايات تظل مفتوحة بلا بداية ولا نهاية، وعوالم تمتد على طرقات بين اليقظة والنوم، طارحةً الأسئلة المصحوبة بدموع وابتسامات راعفة كجرح لا يندمل.
أمور كثيرة وتفاصيل يومية يبوح بها الفيلم، إذ يمضي الى النهاية في نهجه الدرامي الغني، محاولاً نقل تعقيدات الحالة وفق مزاج المخرجين. هالة العبد الله وعمار البيك يختاران شكلاً متمرداً على القوالب، قائم على التراجع والتكرار، يحطم المرايا ويستعيد الصور في رحلة هي أشبه بجردة حساب، ومواجهة مع الذات.
لكن العلاقة بالزمن في شريط “أنا التي تحمل الزهور الى قبرها” هي أيضاً علاقة بالبوح. يخلق الفيلم علاقة “تواطؤ” مع المشاهد. فهو الشاهد والمؤتمن على الأسرار والجراح القديمة. يتقاسم معه الوقائع العامة بقدر ما هي شخصية وذاتية... كثيرة هي الأشياء التي أبقاها الفيلم غامضة ومفتوحة على المجهول، تاركاً المشاهد في حالة شوق الى المزيد من الحكايات التي لا تأتي. كأننا بالمخرجين أجّلا باقي القصة الى حين، ليكملاها بعد مغادرة قاعة العرض.