بيار أبي صعب
تبدأ غداً العروض التجارية لفيلم «أطلال»، على شاشتي «سينما 6» (الأشرفية)، و «ميتروبوليس» (الحمراء). يوقّع غسان سلهب عملاً مركّباً ومتقناً، سيعجب جزءاً من الجمهور ويترك الجزء الآخر متخبطاً في حيرته وتساؤلاته.

«أطلال» غسان سلهب في الصالات أخيراً. ثالث أفلام هذا المخرج الذي يمثّل ــ إلى جانب زياد الدويري وآخرين ــ مستقبل السينما اللبنانية. يذهب إلى لقاء الجمهور المحلي ابتداء من الغد. في العاصمة فقط، للأسف («سينما 6» Sofil في الأشرفية، و «ميتروبوليس» في شارع الحمراء)، ومع ذلك فالخطوة، بحد ذاتها، تستحق الاحتفاء. وتنتابنا رغبة في تحريض القراء كي يتهافتوا لمشاهدة الفيلم، على طريقة الدعوات الإعلانية التي تطالعنا بين حين وآخر في التلفزيون، وفوق جدران المدينة: “شجعوا الصناعة الوطنية”!
قد لا يكون فيلم سلهب “صناعة وطنية” صرفة، لأسباب لا تخفى على أحد، على صلة بطبيعة الإنتاج السينمائي من جهة والاقتصاد المحلي (الطفيلي) من جهة أخرى، فضلاً عن انعدام الرساميل الوطنية المستثمرة في قطاع الإنتاج السينمائي، إذا استثنينا تجربة فيليب عرقتنجي التي لم تدرس بعد بما فيه الكفاية، علماً أن جمهور “البوسطة” لا يتقاطع بالضرورة مع جمهور صاحب “أشباح بيروت”. قد لا يكون “الأطلال” صناعة وطنية تماماً إذاً، وقد لا يكون فيلماً جماهيرياً وتجارياً من أساسه... لكنّه عمل مميز على أكثر من صعيد، سيعجب جزءاً من الجمهور، ويصدم أو يخيّب جزءاً آخر (وربّما أثار غضبه)، وهو ما نتوقّعه من أي أثر إبداعي جدير بالاهتمام!
“الأطلال” تجربة ناضجة، تحمل توقيع سينمائي أكد حضوره من خلال سينما تتميّز بأسلوب غير تقليدي، يعيد الاعتبار إلى الفن السابع في أجمل تجلياته وأكثرها طليعيّة. إنه الابن البار لمدرسة “السينما الفرنسية”. تربطه بغودار علاقات روحية خفية، تماماً كما يمكن القول إن الدويري الذي يتهيأ لتصوير إنتاج أميركي ضخم، مقتبس عن رواية ياسمينة خضرا السابقة “الاعتداء”، هو الابن البار لترانتينو والسينما الأميركية. الأول أفلامه فسلفية شاعرية قائمة على التجريب والمجاز، واللغة السينمائية جزء أساسي من خطابها، بينما يبحر الثاني في اتجاه الأكشن والمشاغل الشكلانية واللغة الواضحة التي تتجلّى في آخر أفلامه “ليلا قالت ذلك”.
ليس القصد إقامة مقارنة بين فنانين قد يختصران مسار جيل كامل في السينما اللبنانية، بل تنبيه القارئ أو القارئة اللذين سيتجاوبان مع دعوتنا إلى مشاهدة “الأطلال” ابتداءً من الغد (عرضان عند الثامنة والعاشرة ليلاً)، إلى أنهما يضعان قدميهما على أرض مترجرجة، ويدخلان مغامرة غير مضمونة النتائج. “الأطلال” فيلم عن بيروت الزمن الصعب، من دون أن يكون هناك أي إشارة فيه إلى الحرب وما بعدها، أو إلى الواقع السياسي (اللهم إلا نشرات أخبار الراديو). والفيلم يحاول أن يروي لنا “حكاية”، لكن لا فائدة من الانشغال بتطوّر أحداثها لأنها لا تفضي إلى مكان!
وإذا كان سلهب يستوحي أفلام مصاصي الدماء العريقة في تاريخ الفن السابع، فلا داعي للبحث عن كليشيهات هذا النوع: لا أنياب ولا صلبان ولا توابيت. فقط العضّة الشهيرة على رقبة ضحايا يبدو كل منها كأنه رسم رسماً، في ديكور شبه مسرحي. “أطلال” حكاية تحوّل بطيء في عالم مقف، رحلة مقلقة إلى قاع المدينة. “دراكولا” (أو نوسفيراتو) يشكّل بالنسبة إلى غسان سلهب “نموذجاً لما ينبغي أن تكونه الشخصية السينمائية في تحولها، في رحلة التماهي مع ظلالها”. ولدى عرضه في لوكارنو، خيّب الفيلم ظن بعض النقاد والمنتجين والسينمائيين الغربيين الذين لا يتحملون، بتعبير سلهب، «أن نأتيهم ــ من هذا الجزء من العالم ــ بأفلام ميتافيزيقية، لا علاقة لها بالحرب والبؤس والسياسة المباشرة”،
اختار سلهب هذه المرّة الطرح الميتافيزيقي، للتعبير عن الضياع الفردي والجماعي، عن استحالة المستقبل، عن الغرق التدريجي في لجّة ليل بلا قرار... بعد “أشباح بيروت”(١٩٩٨)، و “أرض مجهولة” (٢٠٠٢)، يحوم سلهب مجدداً في شوارع بيروت، كما المجرم حول مسرح الجريمة، مطارداً أشباحه الحميمة في متاهات المدينة المستحيلة. الدكتور خليل طبيب أربعيني، محاط بالنساء، مولع بالغطس، تبدو عليه علامات النجاح. لكن شيئاً ما يقلقه، يعذّبه، ويمضي به إلى الخروج، شيئاً فشيئاً، من عالمه الهادئ والمستقر. إنه سليل الدكتور مابوز والدكتور كاليغاري وغيرهما من أبطال السينما التعبيرية التي جاءت تعبّر في ثلاثينيات القرن الماضي، مع مورنو وفريتز لانغ، عن روح ألمانيا الشقية بعد الحرب العالمية الأولى. بطل سلهب ينجذب أكثر فأكثر إلى قاتل غامض، كلما عاين ضحية جديدة من ضحاياه: كلهم ماتوا بالطريقة نفسها، بعضة في العنق مثل عضة دراكولا، أفرغتهم من دمائهم. شخصيته تتفكك أمامنا ــ وجسده أيضاً ــ فيمضي في رحلة “تحوّل” تنقله إلى المقلب الآخر من المرآة، إلى جحيم الداخل الذي يحتضن شياطيننا الحميمة ووحوشنا الضارية. سيخرج من دوره الاجتماعي، يختفي من المستشفى والبيت ودائرة الأصدقاء. يغوص في ليل بيروت متعقباً صنوه الغامض. ويأتي أداء كارلوس شاهين، بشخصيته الملتبسة الباردة، وحركة يده الخفية، ليعطي الفيلم نبضه. مثلما تمنحه موسيقى سينتيا زافين على البيانو كثافته الدرامية.
يمكنكم أن تتصوّروا دراكولا يحوم في شوارع بيروت، مدفوعاً بميول شريرة غامضة. اذهبوا للقائه إذاً: لا بدّ أن للأعمال النوعية جمهورها في لبنان، رغم حالة انحدار الذوق العام التي ساهمت فيها الفضائيات، وعززتها الثقافة السائدة إلى حدّ بعيد.